ثورة العشرين.. دروس وعبر

آراء 2021/06/30
...

  مهند الهلالي 
     
أكثر من مئة عام مرت على حدث كان له أثر بالغ في تغيير المشهد التاريخي للعراق الحديث، هذا الحدث تمثل بانطلاق ثورة شاملة على الارض العراقية ضد الاستعمار البريطاني حينذاك سميت بثورة العشرين، ما ادى لاحقا برغم فشلها العسكري الى انشاء اول دولة عراقية ضمن الحدود الجغرافية الحالية لهذا البلد.
ثورة العشرين حملت بين طياتها الكثير من الدروس والعبر، فبالرغم من فشلها عسكريا إلا انها كانت ذات ابعاد اجتماعية بالغة الاهمية على الشعب العراقي في المرحلة التي اعقبتها، كونها اتت بعد مئات السنين من الخضوع الشعبي لارادة الحكم الاجنبي المتمثل بالامبراطوريات الكبيرة التي تعاقبت على حكم هذا الشعب واحتلال هذه الارض، تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم التحرير، وتارة أخرى باسم العرق او التاريخ.
وحتى لا نخوض كثيرا بتلك التفاصيل التاريخية لهذه الارض والشعوب التي استوطنتها، كونها بعيدة عن محور موضوعنا الحالي، ارتأينا ذكرها فقط للتنويه الى ان الصمت الذي طال لمئات من السنين والاستسلام لحكم الاجنبي كانت له نهاية في تلك الثورة، التي كانت الاولى من بين ثورات او انتفاضات متباعدة سبقتها ربما كانت تنادي بانهاء الظلم او نيل حقوق ما، غير انها لم تناد قط بإنشاء دولة مستقلة ذات سيادة عن الامم التي كانت تحكم هذا البلد وتعدّه جزءا من ممتلكاتها او ولاياتها او مستعمراتها.
إذن ومما سبق، فنحن امام حقيقة واحدة هي ان ثورة العشرين كانت نقطة تحوّل في التاريخ العراقي ليس الحديث فقط، انما على الاطلاق، فالعراق كدولة ذات ارض وشعب بحدوده الحالية تشكل بعد هذه الثورة بأشهر قليلة، ولولاها وفي حال تأخرها لسنوات قليلة ربما لشهدنا عراقا آخر ليس هذا الذي نعيش فيه الان، ولربما اقتطعت منه أراضٍ وضمت أخرى لدول مجاورة ذات جغرافيات مترابطة، ولعل ما يشهده العراق الان من احداث توضح نوعا ما بعض التفصيلات التي نرغب بتبيينها من دون الغوص ببحارها ذلك كونها معروفة للقاصي قبل الداني.
إن التطرق لاهمية تلك الثورة لا ينطلق من نتائجها وما ترتب عليها من احداث كون تلك الاحداث اصبحت تاريخا موثقا وانتهى، غير ان الموعظة من تداول هذا الحدث والكلام في طياته يأتي عبر القيمة الانسانية العالية التي فجرتها، برغم محاولة بعض المؤرخين إظهار ذلك الجيل بأنه بسيط وجاهل ولا يدرك اهمية الابعاد الستراتيجية السياسية للمجتمع او البلد، الا ان الحدث يفرض نفسه وبقوة لاظهار جيل واعٍ يدرك اهمية وخطورة ما كان يمر به من ظروف ربما اكثر بأضعاف من اجيال لاحقة ادعت الحنكة والحكمة والذكاء.
هنا يطرح السؤال المهم نفسه وبقوة، كيف ارتقى ذلك الجيل الى هذه الدرجة الكبيرة من الفطنة والجرأة لاتخاذ القرار الستراتيجي التاريخي بالثورة على القوة العالمية الاولى في ذلك الحين بعد ثلاثة اعوام فقط من تحريره على يد تلك القوة من براثن حكم احتلال متخلف دام لقرون طويلة؟. 
الجواب لن يكون أحجية.. فالرموز الوطنية التي سمحت للبريطانيين الدخول للبلاد للتخلص من الدولة العثمانية هي ذاتها من تحمّلت المسؤولية بالثورة على الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وان من أدرك خطورة البقاء تحت مظلة الباب العالي في اسطنبول، أدرك بعد اشهر قليلة وليس ثلاث سنوات ان هذه القوة أخطر على بلده من الخلافة العثمانية، وما بين الادراك الاول والثاني تتجلى قدرة الفرد العراقي في ذلك الحين على تمييز وتحديد مصالح بلاده وفقا للاولويات المتاحة لديه حينها، في وقت كانت الخيارات محدودة للغاية.
إذن ما هي الاولويات التي حددها الفرد العراقي في ذلك الزمان لنصرة بلده وشعبه والحفاظ على هويته الوطنية والدينية والقومية؟.
الاولويات هي انه لم يضع قط في تفكيره اية نزعة فئوية لاوطنية،  وكان جل تفكيره في العراق الممتد من الجبال الشامخة شمالا حتى الهور وشط العرب جنوبا، ومن ايران شرقا حتى صحراء فلسطين التي سميت بإمارة شرقي الاردن لاحقا وصحراء نجد غربا، تاركا العرق والتنوع المذهبي جانبا، مقدما في الوقت ذاته مصلحة الكل على مصلحته الخاصة، وانه لا قدسية الا لله والوطن والشعب والارض التي يعيش عليها هذا الشعب مجتمعا.
ولعل هذا الرقي تجلى باختياره في ما بعد احد انجال رمز قومي عربي اسلامي في ذلك الحين وهو الشريف الحسين والي مكة وقائد الثورة العربية الكبرى ليكون هذا النجل رمزا وملكا للعراق العربي المسلم الثائر، برغم وجود مرشحين من امراء عدة لقبائل العراق في حينها.
هذه المبادئ والقيم التي لم تندثر في ذلك الزمان بعد قرون طويلة من حكم عثماني صفوي وقبلهم مغولي، فهل من المنطقي ان تندثر بعد مرور أكثر من مئة عام على تأسيس العراق؟، لعل هذا السؤال هو اهم ما نصبو اليه في مقالنا هذا، وقبل الاجابة عنه من القارئ الكريم فإننا نخاطب العقول والقلوب مجتمعة لا الخواطر والعواطف والمتبنيات المشوهة التي طرأت على شعب ما بين النهرين، مع التذكير أن أجدادنا آمنوا قبل مئة عام بأن هذا البلد يتسع للجميع ويحبه جميع ابنائه، فهل نحن قادرون على الايمان المطلق بأن عراقنا يتسع للجميع وان جميع أبنائه يحبونه؟، هنا سيتحدد مستوى الادراك وتقدمه ما بين جيل وصف بالجهل ظلما وجيل يدّعي التنوّر غير أن أفعاله هي التي ستحكم عليه تاريخيا لا أقواله.