آليات بناء الدولة .. معاملات ومراجعات المواطنين

آراء 2021/07/03
...

 نعمة العبادي
 {هذه السلسلة تتكفل بمناقشة موضوعات مهمة ومصيرية لبناء دولة المؤسسات} يستعمل اصطلاح {معاملة} للدلالة على مجموعة الاجراءات والوثائق والمتعلقات، التي يتطلبها الحصول على خدمة او سلعة او امتياز او حق او ألتزام او شأن ما، يقتضي الوصول إليه او تحقيقه، مجموعة من الاجراءات، وعادة ما يطلق هذا الاصطلاح على البريد الحكومي المتداول في الدوائر الخدمية والمتعلق بشؤون وقضايا لها صلة بالجمهور سواء كانت الجهة المستفيدة منه الدولة أو المواطن.
مثل أنموذج الدولة الراعية الشكل الابرز لواقع النظام السياسي في الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921، خصوصاً بعد أن أصبح النفط المورد الاساس والاوحد للاقتصاد، وتعاظم تدخل الدولة في حياة الناس مع صعود الانظمة ذات الصبغة العسكرية {أي بعد الجمهورية الاولى}، وزاد هذا التدخل مع النزعة البوليسية التي طبعت الحكم بعد صعود {البعث} الى السلطة، وتعاظم هاجس أمن السلطة بعد ظهور اتجاهات معارضة واضحة المعالم، حيث اصبحت الدولة تفترض المواطن {مراوغاً او مخادعاً او مزوراً، بل وحتى عدواً} كأصل للتعامل معه، وتم تصميم كل الشؤون المتعلقة بحياة المواطنين على هذا الاساس وفي مقدمتها {المعاملات}، إذ برعت العقول المهووسة بتحكيم كل شيء تحت نظرها وافتراض الشك كقاعدة للتعامل مع المواطنأ بصياغة خطوات واجراءات وبيروقراطية توصل المراجع حد الرغبة بالانتحار لشدة تعقيدها، كما لم يعد واضحاً بشكل عملي الخط الفاصل بين المعاملة التي تتعلق بأمر مستحق يروم المواطن الحصول عليه وبين واجب مفروض عليه يتطلب منه أداءه.
تبدأ علاقة العراقي بـ {المعاملات} من لحظة تولده، حيث اجراءات تسجيل الولادة والملابسات التي حفت هذا الملف، خصوصاً في ازمنة الزواج خارج المحكمة، والذي فرضه قيود وتعقيدات من نوع آخر مثل موافقات الزواج او كون الزوج هاربا من الخدمة العسكرية او لعدم وجود الوثائق الضرورية المطلوبة، وهكذا يتبدى هذا الوضع بتعقيد على موضوع تثبيت التولد واصدار هوية الاحوال وتوابعها، إذ ترافق المعاملات حياة العراقي من المدرسة والعمل والزواج والتملك والبيع والشراء وكل الشؤون الاخرى وحتى الموت والدفن، فحياتنا عبارة عن مجموعة معاملات.
فرض تعقيد الاجراءات المنطلق من المزاج البوليسي للنظام، والشكل البيروقراطي للادارة، والفساد بكل اشكاله على هذا الطين مزيداً من البلل، فإذا كانت المعاملة سهلة وبسيطة في طبيعتها، تحايل الموظف ونبغت اجتهاداته الشيطانية لانتاج عشرات المشكلات والتعقيدات مثل {الختم غير واضح، الختم قديم، هذه نسخة مستنسخة نحتاج النسخة الاصلية، اوراقك ناقصة، الاجراء ليس من صلاحياتي، لا توجد تعليمات بذلك، التعليمات على خلافه، اعدها الى فلان او فلانه للتوقيع او الهامش، المستمسكات الاربعة غير متطابقة.. الخ من نماذج التعويق} التي تبدع بها عقلية الموظف الفاسد بغية الضغط والابتزاز للحصول على الرشوة.
تعمل الوزارات والهيئات والدوائر بحسب انظمة وتعليمات لانجاز المعاملات في معظمها اجتهادات شخصية لمدراء ورؤساء تحولت تدريجيا الى سياقات عمل ثابتة، فلا توجد جهة محددة مناط بها مسؤولية النظر في كل المعاملات المتعلقة بالحقوق والواجبات وجميع شؤون الدولة والمواطنين بطريقة كلية شمولية تحدد من خلالها الخطوات والوثائق الضرورية فعلا، والتي تسهل انجاز الامور بوقت اقصر وكلفة اقل بعيدا عن الروتين والحلقات الزائدة التي تمثل منطقة هشة يتم استغلال المواطن من خلالها، وترسم حدود حقوق المواطن التي تخوله في الحصول على هذا الامتياز او ذاك بعيدا عن الامتهان والابتزاز والمنة.
واذا كانت الامور بهذا المستوى من التعقيد في ظل النظام المركزي، فإن ما سمي باللامركزية الادارية، والذي نقل صلاحيات ثماني وزارات الى ادارة المحافظات، قد خلق تداخلا وتشويشا وتعقيدا اكثر، حيث وقع المواطن بين مطرقة الوزارة وسندان المحافظة، لان الامور لم توضح بالشكل المناسب، فالوزارات لا تزال تتمسك بصلاحياتها، وتعقد اي اجراء ما لم يمر من خلالها والمحافظات، من الجانب الاخر تصر على التمسك بحقها في ممارسة الادارة من خلال ما خوله لها قانون المحافظات.
من المنصف القول، ان الجهل القانوني والاداري لدى معظم افراد المجتمع، ورغبة الجميع في استثنائهم من الاجراءات الضرورية، والمزاج الحاد للكثير المواطنين، وضغوط التدخل السياسي والمحسوبيات، وامور اخرى، تشكل بمجملها تعقيدا متعاظما يواجه الدوائر في انجاز اعمالها، ويضع الموظفين في حرج، ويخلق الكثير من المشاكل مما ينعكس على مسار المعاملات والاجراءات، ويضر بالمواطنين الآخرين. لم تتوقف الاعباء على المواطن جراء المعاملات في حدود تعقيدها، بل يظهر لمن يراجع الدوائر هذه الايام مشكلة جديدة تتمثل بالارتفاع الغريب لمجمل الرسوم والاستقطاعات المالية المفروضة على المعاملات، فأقل المعاملات تتحمل رسومات بمبالغ صارت ترهق قدرات المواطن البسيط، ومع ارتفاع مبالغ الاستقطاع، لم تتحسن خدمة الدوائر، ولم يحصل المواطن على اي مردود ايجابي لقاء المبلغ الكبير الذي دفعه، فلك ان تتصور اني بعد ان دفعت مبلغ {17} ألف دينار رسماً لوكالة مضافاً الى {5} آلاف للعرضحجي الذي نظم الوكالة {ولموضوع احتكار قضية العرضحجية وعلاقاتهم برؤساء الدوائر وتقاسم الحصص قصة طويلة ليس محلها هنا}، وعندما تطلب الامر ارسال كتاب مظرف الى جهة اخرى، أبلغني الموظف بضرورة الخروج الى المحل الموجود خارج الدائرة لشراء ظرف صغير لتغليف الكتاب لان الدائرة لا توزع اي قرطاسية لانجاز المعاملات.
ان دولة المؤسسات تفترض قراءة ادارية تنموية موضوعية لمجمل معاملات المواطنين وطرق تقديم الخدمات واستيفاء الحقوق والواجبات، بحيث تعاد صياغتها على اساس قاعدة {ان الدولة والنظام بخدمة المواطن}، ووجودها من اجل تحقيق افضل فرص العيش الكريم له، وان الثقة هي الاساس ما لم يثبت العكس، كما، ان المؤسسات ليست متفضلة ومتكرمة على المواطن في تقديم الخدمة، بل هذا واجبها الذي ينبغي ان تلتزم به، وان الاجراءات والوثائق لكل معاملة، لا بد ان تصاغ بشكل يسهل ويبسط الخطوات ويختصرها حتى لا يكون التعقيد والروتين مدخلا للابتزاز والاستغلال، وان يعاد النظر بشكل دوري ومتقارب في الاجراءات الاضافية لغرض ازالتها في اقرب وقت ممكن، وان نشرع بشكل منتظم بالعمل بالنظام الالكتروني للمراجعات بعد استكمال البيئة المناسبة لذلك، وان تخفض الدولة من تدخلها في الشؤون الخاصة للناس بأكبر قدر ممكن والاقتصار على ما هو ضروري، والاسبق من كل ذلك، ان تعزز الرقابة على الاداء بمنظومة فاعلة وعادلة ونزيهة وإلا اصبحت جهة الرقابة مصدر فساد
آخر.