ليس من الهين تفسير العلاقة بين المثقف والاعلامي والفيلسوف، لأننا نعيش زمن الحرفية الثقافية في الوسط الإعلامي، اذ بات الامر يناط بما يملكه هذا الكاتب او غيره، من إمكانات. لذا فبامكانهم التناوب وتغيير الأماكن.
ان عصرنا عصر الاعلام الذي أخذ ينافس فيه، الصحفي، الناشر والسياسي. فضلا عن المثقف، كما نبه الى ذلك ريجيس دوبريه عندما قال: إن السلطة الفكرية انتقلت من الجامعة الى الاعلام.
وربما يصدق القول إن الفلسفة حملت نعشها، والاكاذيب، الى عرين الصحافة لكي تنبض من جديد وتنهل من نبع الشارع وحيويته. وهو امر تشتغل عليه منذ الامس جملة من الكتاب والمفكرين، الا اننا نطمح في زمن ما بعد الخراب الذي شخصه مدني صالح للفلسفة. ان يتم ذلك.
لقد تقمص فوكو. دور الصحفي الايطالي ليؤيد ثورة ايران نهاية سبعينيات القرن الماضي. ومن قبله سارتر كان طموحا في الازمنة الحديثة 1945، للأدب الملتزم وأندريه جيد ومالرو ومونييه. وكان لكلود لوفار وكاسترياديس دور في انتفاضة المجر عام 1956 بعد ما تأسست ب 1949 فهل يمكن للكاتب ان يوجد بمعزل عن الصحيفة وهل يتحقق وجوده بعيدا عن سطوتها الإعلامية والية
انتشارها؟.
اننا لا ننسى غرامشي ودوره في الصحافة الإيطالية كمثقف ماركسي لم يرق له تصنيف المثقف السائد على اعتبار انها مهنة محصورة بالنخبة والعمل الذهني، فالمهم لديه وظيفة ومكانة الانسان في الوسط المجتمعي، فالمكانة والوظيفة، كانت معياره في نقد نخبوية وتقليدية المثقف وعضويته داخل مجتمعه الثقافي، ومن هنا نفهم مقولته التي يرددها.انني أوسع كثيرا مفهوم المثقف ولا احده بالمفهوم الدارج الذي لا يقيم وزنا الا لكبار
المثقفين.
ربما صدق احد الكتاب «جيرار ليكلرك» مؤلف سوسيولوجيا المثقفين، عندما كتب ان المثقف بحاجة للصحيفة او حسب ما ننقل عنه، لا وجود لمثقف كبير دون صحيفته. لكن الاخيرة ماذا تعني سوى مجموعة من أقلام سطرها كتاب عدة؟!. عليه يبدو أنهما لا ينفصلان ولا يرتفعان اذا استخدمنا لغة المنطق
التقليدي.
مارس انجلز وماركس عمل الصحافة حتى طوردوا واصدرت بحقهم احكام بالنفي والاعتقال والمنع. إن اول من استخدم الاستبيانات في تاريخ الفلسفة هو كارل ماركس كما يرى بوتومور. واما انجلز فقد قهرت برجوازيته حياة مدينة الصناعة الانكليزية مانشيستر. لاسيما عندما اطلع على احوال المدينة القديمة وهاله منظر الطبقات المسحوقة.وهو الامر الذي دشنه في كتاب حالة الطبقة العاملة في إنكلترا والامر المثير تزامن المكان للأثرياء مع
الفقراء.
بعبارة ادق تستطيع ان تلمس ذلك التجاور بين الطبقتين بحسب انجلز، بل ان الحد الفاصل بينهما شارع وهمي صنعته الاقدار وهو ما أخذ معنى كولونيالي مقيت عند «فرانز فانون» عندما أخذ يبين لنا الفرق في معذبي الارض بين مدن وملابس وأزياء الغربي الأبيض عن مثيلاتها عن الزنجي.
ليس عيبا ان تُمارس الفلسفة الاستقصاء الصحفي او ان تطارد المعلومة كالصحافة. ويمكن القول ان دورها لا بد ان يكون ملاحقة الوجع والالم والخوف والأسطورة المنتشية في أركان المدن الفقيرة والغنية على حد
سواء.
لقد انتهى عصر المثقف المنعزل في صومعته وأخذت تغريه وسائط الاتصال الجماعي، فهو يكتب والقارئ يلاحقه. كقارئ له مكانة ملهمة فهم من يقرر البقاء لصنف او فئة الكتاب. عليه اضحى الكاتب رهن القارئ. ويمكن ان نشبه ذلك بالعلاقة التي تغيرت بين العالم والطبيعة. فلم تعد الاخيرة ساكتة صامتة او جامدة، بل العلم الحديث أخذ يصغي الى حوارها مع العالم كما نفهم من نص هايزنبرك او كما فهم العلم ميرلوبونتي.
لا امتلك شيئا من تلك الوسائط لكوني ما زلت احلم بمكانة المثقف في التغيير عن بعد والزمن رهن تلك التحولات. ربما يأتي زمان لا مكان للمثقف او للفيلسوف سوى بمتاحف مركونة مع اخر عظام لحيوان انقرض في زمن السوشيال ميديا المرعبة وثقافة الصوت والصورة، وتختفي على اثرها نخبوية استاذ الجامعة وصورة الأديب العالمي، لأننا نعيش في زمن المثقف النجم والمصنوع اعلاميا!.
وربما ستغادرنا الصحف والكتب المنشورة. والفيلسوف والمثقف سيغادر كل منهما ساحة المكتوب لكي يردد نشيد الميديا الجماهيري وستحال الصورة الى صنم يعبد في زمن ثقافة النخب الشعبية والمسموع المرئي.