جدل الحاضر بالماضي

الصفحة الاخيرة 2021/07/10
...

جواد علي كسار
كنتُ أعمل على ملف تطوّرات أفغانستان، عندما لاحظتُ أن الحاضر الذي يكوّن المشهد الحالي في هذا البلد، تعود مقدّماته بأغلبها إلى الماضي. عند هذه النقطة استرعت انتباهي بجدّ مقولة الماركسية الفكرية، في ما ذهب إليه ماركس بإصراره على أن الحاضر هو الذي يفسّر الماضي وليس العكس!.
حقيقة لم أكن أعرف من أين جاء ماركس بهذا التعميم، وما باعثه على هذا الإصرار الذي حوّله إلى مقولة منهجية، وإلى «قانون» لقراءة العلاقة بين الحاضر والماضي، مع أنه يجافي بديهيات التفكير المنطقي للناس جميعاً، في ما يذهب إليه هذا التفكير من قواعد؛ منها أن النتيجة مكوّنة من مقدّمات، ومن ثمّ يدخل التأريخ في تكوين الحاضر، بصفة أن الماضي هو أحد المقدّمات الأساسية في بناء هذا الحاضر؛ مرّة أخرى من باب أن النتيجة تساوي مجموع مقدّماتها.
ربما كان السبب وراء هذه القراءة العكسية في الماركسية الفكرية، حرص ماركس على ما أطلق عليه هو بـ«التفسير التطوري للتأريخ». لكن ما أميل إليه أن ماركس وقع ضحية مجاراته لفرضية من فرضيات الرؤية (حتى لا أقول: النظرية) التطورية لنشأة الخليقة ونموّ الكائنات الحيّة، أو ما يُسمى بالرؤية الداروينية لأصل الأنواع. دليلي على ما أقول هو ما ذهب إليه ماركس نفسه، بالانتقال من هذه الفرضية الفيزيولوجية، إلى شكل الإنتاج وعلاقاته، وتالياً إلى التفسير التطوري للتأريخ المستلهم منه. يقول ماركس: «إن فيزيولوجية الإنسان هي مفتاح فيزيولوجية القرد، فالمؤثرات الدالة على شكل أرقى عند الأنواع الحيوانية الدنيا لا يمكن فهمها، إلا عندما يظهر الشكل الأرقى. وهكذا، فالاقتصاد البرجوازي هو مفتاح الاقتصاد القديم». النص واضح في دلالته، على أن الإنسان ككائن متقدّم على القرد في خطّ الترقي الدارويني، هو من يفسّر الأدنى منه من أنواع الحيوانات. وهكذا الحال بالنسبة إلى العلاقة بين الحاضر والماضي، فالحاضر الأرقى هو الكفيل دون العكس، بتفسير الماضي، دائماً بحسب ماركس ورؤاه المنهجية لقراءة التأريخ. أحسب أن الواقع هو من المحكّات الكبرى لاختبار الفرضيات، وما نلمسه من تجاربنا في بلدنا والمنطقة والعالم من حولنا، وتأريخ الشعوب، والتقلبات السياسية والاجتماعية للمجتمعات، أن للماضي حضوره الفاعل في الحاضر، وأن التأريخ هو كالكماشة التي تفرض بقبضتَيْها علينا!.