الفلسفة والسببيَّة

آراء 2021/07/15
...

  د. علي المرهج
 
قيل عن الفلسفة بأنها {البحث عن أصل الوجود} أو {العلة الأولى}، وأكد أغلب الفلاسفة على {التلازم الضروري} بين السبب والمسبب، أو العلة والمعلول
 وبعضهم ميز بين نوعين من العلل أو لأسباب، وهي العلل القريبة والعلل البعيدة، كأن يكون الأبوان علّة لوجود الابن، وهي علل قريبة، ولكن العلل البعيدة مجهولة بالنسبة لنا، ولكننا نعرفها 
استدلالياً عبر فهمنا للتلازم بين العلّة والمعلول، لنصل إلى علّة نهائية للوجود هي {العلّة الأولى}على قاعدة لكل بناء بنّاء، ولأن كل علل الوجود التي نعرفها هي من قبيل العلل القريبة، فلنا حق افتراض وجود علّة بعيدة هي سبب وجود كل هذا الوجود، وهي دليل عقلي برهاني لا تجريبي، يصح في العلوم الرياضية.
وفق افتراض يستند لمفهوم {العلّية} ذاته ينتهي أصحابه للقول باستحالة  قبول فكرة تعددية أسباب الوجود إلى ما لا نهاية له، لذا ينبغي أن نصل للاعتقاد بوجود {علّة أولى}
 للوجود.
ولا أفصل بأنواع العلل الأربع: العلة المادية، والعلة الصورية، والعلة الغائية، والعلة الفاعلة، بحسب التقسيم الأرسطي، العلة المادية هي المادة غير المتعينة التي يُشكلها الله علّة الوجود الأولى وسببه، لتظهر لنا على صورة ما في الوجود، فتكون العلّة الصورية، لغاية يقصدها صانع الوجود (الفنان)، الذي له القدرة في تشكيلها بأشكال عدّة لأجل شيء ما يقصده أو يبتغيه، وما العلّة الفاعلة إلا اتمام للعلل واستكمال لوجودها وتبريرها، بوجود سببية السبب وعلة العلل، الذي وجدت من أجله باقي وجودات العالم بكل تمظهراتها وتنوعاتها.
العلة الفاعلة هي السبب لحصول تكوينات الشيء بعلله وأسبابه الثلاثة.
وفق ما ذكرنا يكون افتراض وجود {البنّاء} الذي هو {علّة الوجود الأولى} هو الفنان المبدع، ويكون هو العلّة المحركة لأسباب الوجود، ليجعل خيرها وشرها وفق حساباتنا نحن، لأن الخير فعل جمالي وعلّي وسببي، عند هذا الفنان الذي قد يكون الشر عارضاً في ما أبدع، فيكون هو علّة الخير وسببه، 
وما القبح الذي هو {الشر} سوى لاحق أو عارض، وفق قاعدة تبناها ابن رشد من قبل، ألا وهي {وجود الشر من أجل الخير الأعم}، فعلة الوجود الأولى إنما هي علة (خيرية) في تشكيلها للعة المادي لتكون علّة صورية نراها في الوجود، متمثلة في شجرة أو في حيوان أو في إنسان، والحكم يكمن عندنا في علّتها الغائية، الذي تتحكم به {العلّة 
الفاعلة}.
لا يُمكن للشيء أن يكون علّة نفسه، وقد يكون علّة غيره، ولكن علّة الوجود الأولى هي علّة نفسها وهي ما يُمكن لنا وصفها بعبارة الفاربي {واجب الوجود}، ولأن علل الوجود متكثرة، ولا يمكن لنا افتراض استمرار العلل إلى ما لانهاية، فيكون فرض وجود {واجب الوجود} مقبولاً عقلاً للوقوف عند سبب أول للوجود.
كان الغزالي بوعيه المتفرد قادراً على نقد مبدأ السببية أو {العلّية}، حينما كشف عن الربط المفترض بين العلّة والمعلول، وقد تنبه زكي نجيب محمود لالتفاتة الغزالي هذه، فربطه بما قدمه (ديفيد هيوم) من نقد لمبدأ السببية، ليكشف لنا محمود عن رأي (هيوم) بأن الاتصال بين العلّة والمعلول، إنما هو من قبيل المعروف السائد، وليس من قبيل ما أسماه {الضرورة المنطقية}، وكل متبنياتنا في الربط الضروري بين العلّة والمعلول إنما هو يقع في {الاحتمالية}، لأن العلوم الطبيعية تتعامل مع النسب ومقدار التحقق منها تجريبياً، لا تتعامل على وفق متبنيات العقل الرياضي {البديهي}، وكل ما بدى للعقليين أنه {تلازم ضروري} بين العلّة والمعلول، إنما هو محكوم بـ{التكرار} و{العادة}.
رغم ما للسببية من فائدة جمة في مسيرة العلم والفلسفة، إلا أنها تبقى محكومة بجنس التفكير الذي أنتجها، ألا وهو التفكير التأملي والمثالي.