تقطيع المنازل وجرف الحدائق.. أزمــة سكن أم ذوق؟

آراء 2021/07/15
...

  د. سلامة الصالحي
تعد البيوت لدى الناس أوطانا صغيرة، يلوذون بها من الاخرين، وتعد هي المصد الاول لحماية الانسان من شرور الطبيعة والناس. وحرص الانسان على مر الزمن أن يعتني بهذا الوطن ويجعله من أساسيات أهدافه في الحياة. ففيه سيمارس حريته وحياته الخاصة، من دون أن تكون هناك من سلطة عليه سوى نفسه، وهو المكان الذي سيرعى فيه أطفاله ويربي فيهم القيم والاخلاق وخدمة الوطن الاكبر والناس.
في السنين الاخيرة وبعد أن تراجعت بغداد والمدن العراقية عن دورها المديني والمتحضر، والذي كان ملهما لكثير من الدول والشعوب وبعد غزو التريف وتحويلها الى قرى تزدحم بالحيوانات والنفايات وعوادم السيارت، بدأت تأكل نفسها وتشوه قوامها الرشيق، فترهلت الشوارع والساحات وبدأت مساحات البيوت تتقلص وتنكمش وغابت الحدائق، لتتحول تلك البيوت الفارهة الى بيوت صغيرة أشبه بالدكاكين بعد ان تم تقطيعها وتقسيمها من قبل الورثة او المالكين، وغابت تلك المناظر المريحة للنفس والعين وحلت محلها ما يبعث الكآبة والالم.
 وبعد ارتفاع أسعار العقارات والاراضي مع محنة غسيل الاموال والفساد والنهب الذي تفشى بعد 2003، صارت الامتار المعدودة تعني الكثير للناس، وتحولت أكثر الشوارع الجميلة الى مناطق تجارية تغص بالمقاهي والمحال والمولات الصغيرة، من دون تخطيط حقيقي يحترم خصوصية بغداد وجمالها، وبنوا تلك البيوت ذات المظهر الحداثي والمضمون اللا انساني، فهي تفتقر للمساحة الكافية لاحترام خصوصية البيت، وتفتقر ايضا الى الحديقة الضرورية لمنح البيت صفة انسانية وجمالية تعودنا على رؤيتها في احياء بغداد. وكان الأجدر بالمالكين والمشترين اذا كانت هناك رغبة بالتوسعة، فيجب أن تكون عمودية، أي بدلا من تقطيعها أفقيا من الممكن الاحتفاظ بالمساحة الكبيرة والحديقة الجميلة وبناء طوابق مستقلة، هذا اذا كان ضمن العائلة او حتى مشتركين بالسند الرسمي لمالكين متعددين، وضمن قانون ايضا يخص امانة العاصمة. 
حدث هذا التشوه والتخريب تحت انظار البلديات وامانة العاصمة، دون اي اعتراض او استهجان ولايزال التقطيع، وتشويه بغداد على قدم وساق، وحدث هذا بسبب قلة الاراضي داخل المدينة وهيمنة المركز على الهامش، في حين ان هناك مساحات شاسعة من الممكن ان تمتد لها المدينة، رغم ان المركز الحقيقي لمدينة كبغداد مهمل تماما وتحولت أعرق الشوارع والاسواق الى مكانات بائسة تجر معها كل يوم اطنان النفايات وتجاوزات البائعين، وعدم احترام الشارع او حرمة النظافة ونقاء البيئة. وليس غريبا علينا مناظر شارع الرشيد وما حوله من بؤس واهمال، كأن المدينة في مهرجان للفوضى وتنتظر يد توقف كل هذا الدمار، الذي يدمي قلوبنا، ويجعل الجميع في حالة نوستالجيا، او يضرب به المخيال الى ان يتصور ان هذه الشوارع ستنظف يوما ما وتتحول الى مقاهٍ ثقافية تناظر مثيلاتها في باريس، وبغداد وتاريخها وعنفوانها تستحق ان تكون اجمل من باريس. فهي بستان الجمال وهيبة المعرفة التي أشرقت على العالم لقرون، فأي زحف جاء مع ركامه وشوه وجه المدينة، اي نعم الحروب وقسوة الحصار والاحتلال شاءت ان تجعل من المدينة ذكرى مؤلمة لنا. لكن ارادة الشعوب وسلوكا حكوميا مخلص ممكن أن يعيدا للمدينة هيبتها وبهاءها، فالمدن التي تفشت فيها العشوائيات وعدم احترام القانون والاستيلاء الفاحش على المال العام من بنايات وأراض وبيوت، أعطى فرصة للكثيرين في أن تطول يدهم على أجمل أحياء بغداد والاعتداء على الاراضي وبناء بيوتهم المشوهة، وهم يدعون الفقر في وقت ترى أرقى ماركات السيارات والشفلات واللوريات أمام بيوتهم، الحواسم والعشوائيات أعني فمتى تضع الدولة يدها على هؤلاء وتزيل هذا التصدع والبدانة القبيحة، التي شاب لها رأس بغداد الجميل، يضاف لها قطعان الماشية التي تتجول براحتها في المدينة واختلطت مناظر الريف بالمدينة، فلم نعد نميز بينهما اضافة الى الذبح في العراء في قلب المدن، دون ان تكون هناك رقابة شديدة تحد من هذه السلوكيات الشائنة المدمر ة للمدينة والبيئة.
 توزيع الاراضي يجب ان يكون بعدالة وحق وألا تعطى لمن لا يستحق او وفق امتيازات غير عادلة، فهذه الطريقة جعلت هناك طبقات مستفيدة وان افتعلت الف طريقة للتزوير وتضليل العدالة بحجة الشهداء او السجناء او.. فالمحاكم تعج بقضايا التزوير التي طالت هذه المؤسسات الانتقالية، واخذ ما لم يكن لهم به من حق، من اموال واملاك العراقيين، منافسين وبشراسة الشهداء الحقيقيين والمظلومين، والتي اتخذت الدولة على عاتقها تعويضهم، وان كان قبل ستين عاما تم شمول العوائل التي شاخ ذووها وتوفوا، في حين ان النضال والموقف لا يراد منه التعويض المادي قدر حزمة القيم والاخلاص للوطن والناس. وبطرق الغش والتلاعب تخدم هذه المسيرة المنحرفة مافيات من المزورين والملفقين والمشتغلين بالقانون، وصارت طرق الثراء عجيبة وغريبة وسريعة، فامتلك احدهم كذا أرض، وافتقر الاخر. نحن نشتغل للماضي، تركنا الطفل والشاب والحاضر يئن من العوز والحرمان واليأس، وهكذا تمضي الامور من دون حساب او عقاب، ولا بد من العودة الى ظاهرة تقطيع البيوت، وضرورة أن تكون هناك محاسبة ومراقبة تحد من هذا النشاط اللا مسؤول والعشوائي في تخريب مدينة كانت تعد من أجمل العواصم وأكثرها خصوصية، بأحيائها الراقية وبنائها الافقي الارستقراطي، لا بد من تحرك سريع لايقاف هذا الدمار والالم، يضاف الى هذا، تهالك واندثار واجهات العمارات القديمة، التي تعطي منظرا لشيخوخة المدينة وتجاعيد زمن، كان من واجب امانة العاصمة أن تجبر المالكين على ادامة وترميم هذه الواجهات ودعمهم بما يمكن من مواد بناء وادامة وبسعر مناسب، إن شح عليهم الامر واعطائها منظرا يليق بالعصر. 
وللاسف فأن هذه الواجهات هي في قلب بغداد، في كثير من العواصم هناك مسؤول عن الحي او الزقاق، ضمن أهالي الحي يراقب نظافتها ومنظر واجهاتها والارصفة والتجاوزات ويخبر عنها، لتتخذ الاجراءات القانونية بحق المخالف. ونلاحظ كثيرا من الاحياء الفقيرة تتم صباغة البيوت باللون الابيض العاكس للحرارة والملائم للبيئة الشرقية الساخنة والحرص على التشجير وتوزيع نباتات الزينة والاصص، التي توضع في الشرفات او الشبابيك، أقترح أن يكون هناك من يمتلك الذائقة والحب لبغداد من معماريين وفنانين لاعادة جمالها وهيبتها، والكف عن هذه اللا مبالاة في تشويه شوارعها واحيائها.