ثورة 14 تموز.. حتمية دورة النُـخب

آراء 2021/07/17
...

 صلاح حسن الموسوي    
              بلغة تشوبها الاستعارة واغراض تقريب المعنى، قيل عن سقوط النظام الملكي في العراق على اثر ثورة 14 تموز عام 1958، بأن الملكية قد وضعت مسامير في نعشها بقدر عدد المدارس التعليمية التي فرض عليها انشاؤها، كأمر واقع لانتقالة العراق من ظلام العهد العثماني الذي كان فيه التعليم بالعراق شبه معدوم، الى مستحقات نشوء الدولة الحديثة بعد ثورة 1920والوضع شبه الاستقلالي للدولة العراقية الجديدة، ومقتضيات استمرارية وجودها وتطورها، عبر آليات الادارة الحديثة وعلى رأسها المدارس بمستوياتها: الابتدائي والثانوي والجامعي 
والمعنى ان انتشار التعليم واستحصال المزيد من العراقيين عليه، قاد الى نشوء طبقة وسطى واسعة، اصبحت نخبتها تفكر وتطالب بالمشاركة بالحكم، وعدم اقتصاره على النخبة التقليدية المتمثلة بالاسرة الملكية والضباط الشريفين وابناء ملاكي الأراضي الاقطاعيين، ونخبة الطبقة الوسطى التي شرعت بتنفيذ الانقلاب العسكري والاطاحة بالاسرة المالكة، هم ضباط الجيش من متوسطي وصغار الرتب، بالتحالف مع طيف واسع من الأحزاب السياسية، وبعضها نخبوي ليبرالي كالحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي ومحمد حديد، واخرى ايديولوجية شعبوية كالحزب الشيوعي والبعث والديمقراطي الكردستاني، وهي تعد ممثلة لفئات شعبية واسعة تنتمي الى الطبقتين الدنيا والوسطى.
وفي تنظيره للعلاقة بين النخبة والمجتمع، يدفع الفيلسوف الايطالي «باريتو» برأي مؤداه ان الثورات  تنتج عن تراكم العناصر الفاسدة في الطبقات العليا من المجتمع، وتزايد العناصر ذات النوع المتفوق في الطبقات الدنيا، وعندما تنشأ خارج الطبقة الحاكمة، طبقة اخرى تجد نفسها محرومة من السلطة، على الرغم من امتلاكها الطاقة للمشاركة في مسؤوليات الحكم، يصبح القانون عقبة «شعبية» ولذا لا بد من زواله، خصوصا عندما تعدم سبل الدخول التدريجي لأبناء هذه الفئات الى المراكز المهمة، وتصبح المواجهة العنيفة هي الخيار الوحيد.
يصح تحديد طبيعة النظام الملكي في العراق، بالمزج بين الطبقة والنخبة، فالاقطاع الزراعي كان يمثل طبقة فاحشة الثراء، لما يعنيه امتلاك المساحات الشاسعة من الأراضي المروية بواسطة الأنهر من قيمة شرائية عالية، اما فئة الضباط الشريفين فهم نخبة منحدرة من مستويات اقتصادية بسيطة، تمكنوا من شغل المراكز الحكومية الأساسية في الدولة العراقية الوليدة، وسعوا الى تقوية مراكزهم الاجتماعية عبر السعي لمصاهرة العوائل الاقطاعية الغنية، وهذا كان تقليد غير خافٍ، فقد صاهر الوصي عبد الاله ورئيس الوزراء صالح جبر وغيرهم شيوخ وزعماء قبائل عراقية كبرى، واول ما فعلته نخبة العهد الجمهوري الجديد بعد نجاح ثورتها، هي وضع اليد ومصادرة الأراضي الواسعة للشيوخ والمقربين من العهد الملكي عبر قانون الاصلاح الزراعي، وكذلك تضررت من قوانين الحكم الجديد، فئة الأشراف «السادة» صاحبة الحظوة في النظام الملكي بامتلاكها للأراضي والمناصب الحكومية بفاعلية ادعاء الرجوع الى الأنساب الشريفة، وقد امتدت شقة الخلاف بين الثورة والمؤسسات الدينية، بعد اصدار قانون الأحوال المدنية، والذي ينتزع الكثير من النفوذ القانوني السابق لرجال التشريع الديني.
اسهمت عوامل عديدة في بروز ونجاح نخبة الطبقة الوسطى الجديدة في ازاحة طبقات ونخب العهد الملكي القوية، واولها ظهور الريع النفطي كمنافس لريع الأرض ما فتح الطريق لانتعاش الطبقة الوسطى عبر آلاف الوظائف الحكومية التي وفرتها المردودات المالية الجديدة للخزينة العراقية، وثانيا تسارع خطى التطور الحضاري في العالم، ودخول الايديولوجيات الثورية الحديثة الى العراق، والتي كانت تبشر بقدرتها على اختصار الطريق نحو النهوض واللحاق بركب المدنية والتطور ما اغرى فئات واسعة من الطبقتين الوسطى والدنيا بالانخراط في تنظيماتها، وهذا بالمحصلة خلق نخبة قوية جديدة في مواجهة نخبة النظام الملكي التي لم تخل طوال وجودها من الصراعات والدسائس الداخلية وتسرب الفساد الى العديد من مفاصلها في السنوات الأخيرة، ونظرة الى اسماء تشكيلة اول وزارة بعد 14 تموز عام 1958، تظهر حيوية الامتداد المجتمعي للنخبة الحاكمة الجديدة، فقد ضمت تكنوقراط ومفكرين بارزين كمحمد حديد وعبد الجبار الجومرد وابراهيم كبة، اضافة الى اشراك جميع احزاب  جبهة الاتحاد الوطني المعارضة للحكم السابق في الوزارة الجديدة، والالتفات الى القومية الكردية التي آزر ابناؤها الثورة، عبر اشراك اكثر من ممثل لهم في الحكومة، وتكريس الاعتراف بحقوقهم القومية في الجمهورية الوليدة.