سياسة الكذب أم الخوف؟

آراء 2021/07/18
...

 د. قاسم جمعة 
من اللافت للنظر اللجوء إلى الكذب لكي ننعم بخيرات السياسة وهو ما يحيل الذهن الى ان السياسة والكذب صنوان لا يفرق الناظر بينهما، على اعتبار ان جوهر السياسة كذب، لكن نلمس تحولا مخيفا امسى اخطر من ذلك بتحول الكذب الى غاية للستراتيجيات السياسية والبرامج المعدة للتنمية والنهضة المتخيلة، ويصح القول ان القضية اخذت مسارات وتوجيها اخلاقيا خطيرا، فانت سياسي إذن عليك أن تنضم الى قافلة الآليات المرسومة لتقنية اخراج الكذب بصورة الحق، وعليه توجه الخطابات وتسن القرارات وتصبح الاكاذيب حقائق، وهو ما نوهت عنه حنة ارندت في كتابها «السياسة والحقيقة»، فالتلاعب والكذب يشكلان صلب الخطاب المؤسساتي للدولة.
فتلك السياسة يعيش بكنفها كل واحد منا سياسيا كان ام سائقا لتك تك، وربما اكون مجانبا للصواب لكنني المس ذلك وانا اتجول بعيني وحواسي السبعة!. 
وقد اكون كاذبا هنا، لكني اتمنى يوميا الا اكذب مع شعور بأنني سأخرج منتصرا على ضعفي، متمسكا على مضض بقيمة الصدق وفائدته وعدمية الكذب وخسارته، رغم ذلك قد تكون للكذب فائدته!. 
وينقل عن الفيلسوف الفرنسي مونتاني قوله: لو كان للكذب كما هو الشأن بالنسبة للحقيقة وجه واحد، لكانت العلاقات بيننا احسن مما عليه، فيكفي أن نحمل على محمل الصدق، نقيض ما ينطق به الكاذب منا، الا ان نقيض الحقيقة له مئة ألف وجه ولا يمكن الالمام كليا، بالحقل الذي يشغله، ترى كم يحمل ساستنا من أوجه او اقنعة الكذب، وهل ما يقولونه كذب، وهل ما نقوله يدفعنا الى الاعتقاد، ان كل وجودنا ما عاد يسير وفق المنطق العقلاني والاوهام التي نذر العلم والفلسفة الى تبديدها؟، حتى الدين اذا اراد تحقيق اثر ما في ذهن المتلقي، يذهب إلى القول انني اروم اصلاح ما غرسته الاكاذيب وما حصدته الأوهام، مع علمنا انه اخرج لنا افظع الأوهام وتسطرت على ايدي كتبته، أكاذيب مؤسسة.
فهل نحن بحاجة للأوهام والاكاذيب؟ ام ان علينا محاربتها على اعتبار انها اباطيل وأساليب تنمي الكذب وتعطل ملكة الحقيقة وتتلون على اثرها حياتنا المقيتة بصنف لوني لا يمكن حتى لسيزان الفنان الكبير ان يدرك سر لونه! ولنسأل ماذا اراد كل من نقرأ لهم الان وغدا، سوى محاربة الكذب وتسييس الاوهام لكي تتحول وتضحى حقائق!. 
فرنسيس بيكون وديكارت ومن قبلهم ومن بعدهم، لم يستطع كل منهم تجاوز ثقافة الوهم وتأسيس ثقافة العلم، لأننا نعيش باثر منها ونتلذذ باوهامها المنعشة للحلول البائسة، والحال يسري أيضا على انبياء الشك نيتشه وفرويد وماركس، فكل واحد منهم، اراد أن يحمل فأسه ليهم بضرب الوهم الغارس بأنيابه في تلابيب الوجود البشري، فوهم الوعي انتصر للاوعي ووهم التاريخ انحاز للاغنياء، ووهم القيم صارت مفاتيحه بيد من يملك الابواب الموصدة بوجه الضعفاء، فكيف اذا غدا كل شيء موجها من غرف الكذب اقصد الاعلام، ليسن لنا قوانين السير المحبوك بمعامل التصنيع والتعليب الكاذب / الواقعي، فلا يمكن بحال من الاحوال القضاء على الوهم ولكن يمكن التقليل من حضوره المتحكم، ويبقى القول معلقا اذا لم نحسم جدليا امر الكذب وعلاقته بالوهم، اذ يبدو ان الوهم يتغذى على الاكاذيب فمثلا وهم الحرية يعتاش على سبك الكذب ليظن الانسان انه كائن حر، فانت حر ما دامك تطيع والطاعة على خلاف مع الحرية، والكذب يموت متى ما صارت اوهامه خاوية، فيولي ادباره خلف الأقنعة ولا يرغب سوى بالتخفي عبر اقنعة الصدق.
يربط دريدا الكذب بخاصية مهمة وهي فعل الكذب والقصد الموجه للفعل وانا اعتقد انه اذا اجتمعت شروط خداع الاخرين او الناس، فالساسة برعوا بهذا الشأن  ولا يباريهم احد في ذلك، حتى ان احدهم يعرفها بانها فن الكذب، وهناك اوجه للكذب كما ذكرنا لكن هذه الاوجه خطورتها انها ستكون حقائق لا تمس!، ويصح العكس فكل ما نعرفه كحقائق يجري تحويله الى زيف وبدائل ضاغطة وفق الحاجة، فأصبح على غرار ذلك الشأن كل ما يهم وجودك كحقيقي معاش مزيفاً ووهمياً وتخيلا، ينبغي قصه وترتيبه ذهنيا، أي اصبحت الحياة المعاصرة كما يشير زيجمونت باومان، سياسة خوف وجعله شأنا عاما يدخل كل المفاصل الحيوية، والأدهى من كل ما ذكرنا أن كل شيء ما عاد يتطلب التأني والتدقيق ما دام هناك من يسهر على اخافتنا، فالخوف يصهر الارادة.
الفلسفة والعلم وخطابات كل منهم، حارت امام هول الأوهام الجميلة، فما هو مرغوب به فعلا لا ينشد العكس، والناس تستأهل الاكاذيب وتمرر الاوهام للأجيال المتعاقبة، فمن هنا يقف كل منا مندهشا امام سياسة الخوف ورعب الوهم، خوفا من نفسه كي لا تنزلق معرفيا نحو ثقافة الوهم والكذب، ولكننا الان بأمس الحاجة لمثقف يفهم سلطة الوهم وتكوينه وشروط انتشاره، فكم منا وقف تجاهه وانتصر وبقي يبرر انتصاره الكاذب! ومن منا فعلا ينقده صباحا ويمارسه تخفيا، وهل حقق كل واحد منا خلاصة من وهمه وصار طليقا، من دون وهم يسيره او كذبة تنعش جيوب ذاكرته، الخوف يتلبس ثنايا كلامي عندما اقف امام ظواهر لا تلمس الا مجهريا عند قناعاتي، ولكني اكون فرحا لانتصار خطابي المؤدلج، أليست هذه اوهامنا المعاصرة، الطائفية الحزبية وانتصار الجماعوية، نحن لسنا ضحايا اوهام بل نحن صناع مبدعون للاكاذيب.