الانفلات الذوقي

الصفحة الاخيرة 2021/07/27
...

سامر المشعل 
 
مرت الذائقة العراقية بممرات متعرجة ومضطربة جاءت انعكاسا للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المضطرب، حتى أضحت تعاني من الاغتراب والتشتت والا انتماء.
منذ تأسيس الاذاعة العراقية في العام 1936 من القرن الماضي تبنت مهمة الحفاظ على الذوق العام، وكانت هناك لجان متخصصة في فحص الكلام واللحن والصوت من قبل خبراء لهم باع طويل في مجال عملهم.
لذلك اتخذت مؤسسة الاذاعة وكذلك التلفزيون الذي تأسس في العام 1956 على عاتقهما تنمية الذوق العام، والعمل على رفع مستواه لدى المستمعين والمشاهدين، وعدم بث اية اغنية ممكن ان تخدش النسيج الذوقي أو حياء المجتمع.
وبالفعل أخذت الذائقة العراقية تتفتح على حقول الجمال في الاغنية والموسيقى، واخذ التراكم الجمالي في الموسيقى والغناء خصوصا والثقافة عموما يرتفع منسوبه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حتى وصل بالسبعينيات الى أوج تقدمه من الحداثة والتطور، على يد شباب أسسوا الى ذائقة جمالية تنفتح بخطابها على المجتمع، من خلال أغنية اقرب ما تكون الى المدنية، واذا جاز لنا التعبير ممكن ان نطلق عليها «أغنية المدينة « الخارجة عن نسق المناطقية والبيئة المنغلقة مثل الريف أو المنطقة الغربية أو الموصل أو بغداد.. انما أغنية فيها من المدنية والحداثة والتطور اللحني والجمال الموسيقي، بحيث تسمع في كل مناطق العراق على حد سواء.. وهي الاغنية السبعينية والتي جاءت بأصوات ياس خضر وحسين نعمة وفاضل عواد وقحطان العطار وفؤاد سالم ومائدة نزهت وسعدون جابر وحميد منصور وانوار عبد الوهاب وكمال محمد وسامي كمال وجعفر حسن وأمل خضير وصباح السهل.. وكان يقف خلف هذا التطور والابداع عدد من الملحنين الشباب آنذاك، الذين يتنافسون ابداعيا في ما بينهم بالحداثة وتقديم التجارب اللحنية والموسيقية المثيرة، الذي أكد حضوره على الساحة الفنية ونذكر منهم على سبيل المثال الملحن كمال السيد وكوكب حمزة وطالب القره غولي ومحمد جواد اموري ومحسن فرحان وعبد الحسين السماوي ومفيد الناصح وياسين الراوي وطارق الشبلي وعباس جميل ومحمد عبد المحسن وطالب غالي وفاروق هلال.. وآخرون.
لكن الخط البياني لصعود الذائقة اصطدم بجدار الحرب العراقية الايرانية، التي خنقت العاطفة الانسانية التي كانت متأججة في السبعينيات لتظهر للوجود أغنية الحرب، تمجد لآلات الانسحاق البشري، كالصوارخ والراجمات وتتغزل برائحة البارود وترخص الانسان وتقوده الى حفلة شواء بشري، ارضاء لجنون قائد الضرورة.
طبعت أغاني المعركة اثارها على ذائقة العراقيين على مدى ثماني سنوات.. بعد ان وضعت الحرب اوزارها مر الشعب العراقي بمرحلة مرتبكة ومضطربة، فلا يدري هل يفرح أم يحزن؟ ليس ثمة أمل يلوح بالافق، بل تفاقمت الازمات واشتدت من خلال الازمات الاقتصادية التي اخذت تخنق البلد، والبطالة ومن ثم حرب الخليج الثانية واجتياح الكويت، وفرض العقوبات الاقتصادية، حتى تحول الغناء الى صراخ مذبوح، والرقص على ايقاع سريع بكلمات غارقة باللوعة.. في هذا الوقت المضطرب انسانيا، فتح نجل الرئيس المخلوع، عدي اذاعة وتلفزيون الشباب، ليحدث الانفلات الذوقي، والبعض يفسر ذلك بانها لعبة سياسية لغرض التنفيس عن الضغوط السياسية والنفسية الخانقتين.
لم تنته رحلة الاضطراب، فبعد التغيير السياسي بالعراق العام 2003 أوجدت مضاعفات لا انسانية ولا اخلاقية ولا وطنية.. تهجير واقتتال طائفي وغياب الامان والحلم.. وسط هذا الاضطراب.. فما بال المغني العراقي.. وكيف يغني؟!.. وللحديث بقية.