القصة الشعرية عند الجواهري.. قصيدة (الراعي) أنموذجاً

ثقافة 2021/07/27
...

 عبدالله الميالي
بالرغم من أن مصطلح (القصة الشعرية) مصطلح حديث أخذ مكانته من اقتران وتلاقح خطابيْ القصة والشعر معاً في نصٍّ واحد، فتولد عندئذ خطاب أدبي جديد يمتاز بالمتعة والجمالية، إلا أن القصة الشعرية نفسها كوجود على أرض الواقع ظهرت منذ عهود وأجيال بعيدة، فالميل إلى تداخل القصة مع الشعر لينتج لنا ما يسمى بـ (القصة الشعرية) بدا كظاهرة فنية بارزة في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي. 
فـ (معظم المعلقات تتضمن ذكرى حوادث جرت للشاعر يقصّها في جزء من قصيدته على سبيل التفاخر بنسبه أو شجاعته أو بسالته في الحروب، وربما تناول فيها جانباً من مغامراته، أو قصّ علينا بعض الأخبار الماضية إلى غير ذلك من ألوان
القص).
إذاً فقد تداخلت القصة مع القصيدة العربية منذ بواكير نشأة الشعر العربي، فلا نطالع أحد دواوين الشعراء العرب منذ عصر الجاهلية حتى يومنا، إلا وكانت القصة حاضرة في صفحاته، وعلى رأي أحد الباحثين: (فقد تطور هذا الفن في الشعر العربي حتى أصبح قصصاً مُكتملاً في العصور التي تلت عصر امرئ
القيس).
فنجد القصة الشعرية بشكل متميز في قصائد (امرؤ القيس، عنترة بن شداد، عُمر بن أبي ربيعة، جميل بثينة، ابن الحُطيئة، المتنبي، ابن الرومي، البحتري، ..الخ) وصولاً إلى القرن العشرين وما بعده فتطول
القائمة.
في حين يرى أحد الباحثين جازماً: (إنني أستطيع أن أؤكد أنّ القصيدة العربية تُعدّ بناءً قصصياً متكاملاً توافرت فيه كل أطراف القصة، وتوحّدت في أشكالها كل الضروب الفنية والقدرات الأدبية التي دفعت بعض نماذجها إلى التفوق فحملت أشكال القصص).
قصيدة (الراعي) واحدة من عدّة قصائد قصصية كتبها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وأبدع فيها، ومنها: قصيدة (أم عوف، وبائعة السمك، واللاجئة في العيد، ولغة الثياب، وتنويمة الجياع) وغيرها.. ومن خلال هذه القصص الشعرية المتنوعة نجد أنّ الجواهري قد كرّس هموم الناس وحياتهم وأوجاعهم مستعيناً بثقافته الاجتماعية والأدبية والسياسية والصحفية والتاريخية
الواسعة.  
تنتمي قصيدة (الراعي) إلى ما يسمّى بالقصة الاجتماعية، حيث برز هذا اللون من القصة الشعرية بشكل واضح على جميع الألوان الأخرى (القصة الوطنية والقومية، القصة التاريخية، القصة الأسطورية والرمزية، القصة الوعظية والتعليمية، القصة العاطفية)، ومن الواضح أنّ سبب بروز هذا اللون الأدبي هو أنّ الشاعر ينتزع ثيمة نصه من صميم الحياة الاجتماعية وواقعها من دون تكلّف أو اصطناع.   
فقد استوحى الجواهري قصيدة (الراعي) من خلال إقامته في مدينة (علي الغربي) في محافظة ميسان (العمارة سابقاً) في فترة ما من حياته في الخمسينيات، ونظمها عام 1955، والقصيدة بلا شك واحدة من جواهر الجواهري، صاغها بفكر مبدع وخلّاق، وكأننا أمام لوحة فنية رُسمت
بمهارة.  
وإذا كانت القصة القصيرة الحديثة تتجسد بعدّة معالم وأركان أهمها: (الحدث، الشخصية، الوصف، المكان، الزمان، الحوار، العقدة، الحل) مع بعض المطيّبات الأخرى، فكل تلك المعالم قد توفّرت بشكل ملحوظ في قصيدة (الراعي)، إذ برع الشاعر في وصف صورة هيئة الراعي ونفسيته وعلاقته بقطيعه: (لـفَّ العـباءَةَ واستقَـلّا / بقطيعِهِ عَجَلَا..ومَهْلا)
كما برع في وصف المكان (البيئة/الطبيعة) من شمس وقمر ونجوم وجبال ورمال وأنوار وحيوانات ومراعي، وارتباط وتعالق تلك المكونات الطبيعية مع بعضها البعض من جهة، ومع الراعي وقطيعه من جهة أخرى، وهذا الوصف الدقيق هو أحد معالم القصة الأدبية الحديثة كما هو معروف.
الشخصية الرئيسة في القصة هي الراعي نفسه، والزمان هو كل يوم يعيشه الراعي مع قطيعه يبدأ من طلوع الفجر حتى مغيب الشمس، والمكان هو هذه البيئة الطبيعية التي يعيشها الراعي حيث الجبل والسهل والمراعي، أما الحوار وإن لم يظهر بصورة مباشرة فهو موجود ضمنياً بين الراعي وقطيعه كما في هذين البيتين: (يُومــي فتفهَـمُ مـا يُريـ / دُ ويَرتمِي فَتَهُـبُّ عَجلى
وتكادُ تُعرِبُ «بالثُغَاءِ»/ هَـلّا، وحَيِّهَـلّا، وهَـلّا)
أما الصراع أو العقدة فهو من خلال ذود الراعي لقطيعه من هجوم الحيوانات المفترسة كالذئب وغيره كما في هذا البيت: (يَقفُو بِعينِ النَسرِ تَرقُـ/ بُ أَجْـدَلاً، ذِئباً أَزَلّا)
ورغم خوف الراعي على قطيعه من افتراس الذئاب، فهو يتشبث بمتعة الحياة التي تتجلى بعزفه للناي ليبدد به ما أصابه من تعب وإعياء: 
(نــايَاً يَـذُودُ بـهِ الــوَنَـى/ وَيُلَـوّنُ النسَـقَ المُمِـلّا
وعَصَاً يَهُشُّ بها، ويَر/ قى ذروةً، ويُقِيـمُ ظِلّا)
نجد أنّ الجواهري قد أظهر براعة متميزة في السرد القصصي كما هي براعته المعروفة في القصيدة العمودية، فصاغ لنا قصة محبوكة متميّزة توفرت على أسس بناء القصة الأدبية الحديثة.     
 
مقطع من القصيدة
لــفّ العَـــباءَةَ واستقَـــلّا/ بقطيعِــهِ عَجَـلاً.. ومَهْــلا
وانصــاعَ يسحــبُ خلفـهُ /رَكــباً يُعَـرِّس حيـثُ حَـلّا
أوفـى بهـــا.. صِلّا يُــزا/حِمُ في الرمالِ السُّمرِ صِلّا
يَـرمِـي بهــــا جَـبلاً فَتَـتـ / بَعُ خَطوَهُ.. ويَحُـطُّ سَهْـلا
أبــداً يقــاسِمُهـــــا نَصِـيـ/ باً من شَظيف العَيشِ عَـدْلا
يَصلى كما تَصلى الهجيـ/ رَ ويستقـي ثَمَـداً وضَحْـلا
يُـومِـي فَتَفهَـمُ مـــا يُـرِيـ / دُ ويَـرتَمِـي فَتَهُـبُّ عَجلــى
وتكـادُ تُعـرِبُ«بالثُغَـاءِ»/«هَلاَ» «وحَيِّهَـلاَ» «وهَلّا»
يَقفُــو بِعَـينِ النسـرِ تَـرقُـ / بُ أَجـــدَلاً، ذئـــباً أزَلّا
وَيَحُـوطُ كـالأَسَدِ اجتبـى/أشـبالَهُ.. جَـديَاً وَسَخـلا
أَوفَـى على رَوْضِ الحـيا / ةِ يَجُــوبُـهُ حَقــلاً فَحَقـــلا
وارتَـدّ يَحمِـلُ مــا يَصُــ / ونُ ذمَاً، ومـا أَغْنَى وقَـلّا
نـايَـاً يَــذُودُ بــهِ الـوَنَــى / وَيُلَــوّنُ النسَــقَ المُمِــــلّا
وعَصَاً يَهُشُّ بهـا.. ويَرْ / قَـى ذروةً..
ويُقِيـمُ ظِـــلّا