المنحى المقارن

الصفحة الاخيرة 2021/07/31
...

جواد علي كسار
عدم ثقتنا ببعض الدراسات المقارنة لا تعود إلى نظرة سلبية إلى الجهاز العقلي للباحثين ومقدراتهم الذهنية التنظيرية والنقدية، بل تتجه أساساً إلى شكنا في وقوفهم على آراء من يريدون دراستهم من أشخاص ومذاهب واتجاهات، من خلال العودة إلى مصادرهم الأصلية عبر اللغات الأم، أو الترجمات المعتبرة.
إذ يحصل هنا الكثير من الخطأ وأحياناً تقويل الآخرين بما لم يقولوه ولم يقصدوه أصلاً. والأمثلة على ذلك كثيرة في جميع حقول الدراسات المقارنة، التي ترتبط بالفلسفة وفلسفة التاريخ، والمجتمع والتربية والقانون، والعلوم السياسية والاقتصاد وغير ذلك من المجالات.
كتب أحد الأساتذة كتاباً مبسطاً يتناول تعليم الفلسفة بمنهج جديد كما أطلق الباحث على كتابه. ما ثمة مشكلة في حديث الكتاب عن آراء الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وصدر المتألهين وغيرهم من فلاسفة المسلمين ومتكلميهم وحكمائهم، فالرجل هو ابن هذه المدرسة، وهو أدرى باتجاهاتها ومواقفها وآراء رموزها.
إنما تظهر المشكلة حين نصل في مادّة الكتاب المشار إليه، إلى المقارنة مع الاتجاهات الفلسفية الأوروبية، ففي هذا الكتاب مثلاً، نجد تلخيصاً بصفحة ونصف أو بصفحتين لآراء هيغل وكانت وغيرهم، يجيء بأفكار قطعية جزمية، ولغة مطمئنة واثقة، من دون الإحالة إلى مصادر هؤلاء المفكرين. وحينئذ يحتار القارئ الواعي، بمنشأ ثقة المؤلف واطمئنانه الكبير إلى ما يقوله على أنه تعبير عن أفكار فلاسفة أوروبا، وهو لا يقرأ أية لغة من اللغات الأجنبية، ولا يحيل إلى ترجمات ثبتت وثاقتها من خلال مؤسّسات علمية رسمية موثقة!.
أوضحتُ المشكلة لأحد مدرسي هذا الكتاب، من خلال مثال مقتبس مما يذكره الكاتب على أساس أنه فلسفة الألماني عمانوئيل كانت (1724 - 1804م) فذكرت له أن لكانت ثلاثة كتب نقدية للعقل، هي: نقد العقل المحض، ونقد العقل العملي، ونقد الحاكمة.
على سبيل المثال تقع ترجمة الكتاب الأول في مجلد ضخم، وتلخيص أفكار هذا الكتاب وحده هي مهمّة لا تحتملها الصفحة والنصف أو الصفحتان اللتان خصّصهما الكتاب المشار إليه، فكيف بمهمّة التعبير عن المشروع النقدي الكانتي، فضلاً عن أعماله الأخرى التي لا يقلّ بعضها أهمية عن كتبه في نقد العقل؟.