النقد.. هوية الناقد

ثقافة 2021/08/02
...

  أ. د. باسم الأعسم
 
من بين عناصر الخطاب المسرحي، يبرز النقد، بوصفه نسقاً تقويمياً، يتخذ من خطاب العرض المسرحي ميداناً تطبيقياً، ومن ثم يفسره، ويحلله ويؤوله، بقصد فحص أنساقه السمع بصرية والحركية، لاستظهار مواطن الجمال والقبح، أو القوة والضعف، وآليات اشتغال المخرج والمؤلف والممثل والمصمم، لمعرفة مدى قدرتهم على تشكيل الصور الفنية والجمالية المتلاحقة، ضمن بنية العرض التي تستند الى رؤية المخرج بكونها ذات فاعلة في تفكيك منظومة خطاب النص ونص العرض، وإعادة بنائهما، فنياً، وفكرياً، وجمالياً، وفلسفياً، بما يصعد نسق التواصل الوجداني بين منظومة الأداء المسرحي الصورية والتعبيرية المتحركة، وبين البنية التصورية للمتلقي، فيحدث من جراء ذلك فعل الاتصال الناظم لاشتراطات العرض الفنية والأدبية والفكرية.
وعلى وفق هذا التصور، تتحدد وظيفة النقد البناء، الذي يستكشف، وليس النقد الذي يصف، كما هو حال بعض النقد الذي طالما ابتليت به الحركة النقدية والمسرحية طوال عقود خلت، فلما نزل نقرأ – أحياناً – بعض النقدات التي يطمح كاتبها أن تكون نقداً مسرحياً سليماً ومؤثراً، ليس على غرار ما يكتبه (اريك بنتلي، يان كوت، توماس دي كوينسي) ولكن أن يكون نقداً مستوفياً لاشتراطاته الفنية والأدبية والنقدية والجمالية، كيما ينال رضا النقاد، والمتلقين، والمنتجين، لخطاب العرض المسرحي.
وبهذا النمط من النقد العليم والمتكامل، تتأسس هوية الناقد، ويسطع قلمه النقدي من فرط رصانته وعلميته، وتفرده، إذ لا خير في نقد لا يكون مختلفاً بنحو علمي وأسلوبي، ومنهجي، بحيث يجتذب العاملين في الإنتاج المسرحي أولاً، والمتلقين ثانياً، أما النقد المجامل الخامل، فلا يعول عليه في إحداث التأثير المطلوب في ذائقة القارئ، وفي تقويم مسارات الخطاب المسرحي، فهو نفسه بحاجة الى تقويم.
إن رصانة النقد تتأتى من كفاءة، وخبرة، وثقافة الناقد، ولذلك، فالنقاد الذين يولدون من رحم المسرح، والممارسة النقدية، كما هم أولئك الذين احتضنتهم رابطة نقاد المسرح، فإنهم يكونون - في العادة – بارعين في مقارباتهم، وراكزين في تفسيراتهم ومنصفين في أحكامهم وتأويلاتهم، وطالما أنهم قد رفدوا المكتبة المسرحية والنقدية برسائل وأطاريح جامعية عززت الثقافة النقدية، ورصنت الخطاب المسرحي، من فرط علميتها، ومنهجيتها، وأسلوبها، ودقتها في الآن نفسه.
إن النقد المسرحي الوضاء، الذي أنتجته أخيلة النقاد الفارهة، وذهنيتهم الوقادة، وقد أزاح أكوام من المقالات غير النقدية، التي أشاعت المفاهيم الخاطئة عن الممارسة النقدية، وأسهمت في الجانب الآخر إرساء أسس خرسانية صلبة للحركة النقدية التي لا تتسع، أو تترسخ إلا بوساطة مقاربات نقدية واعية ومسؤولة، وذات فهم دقيق لمفاصل البنية التركيبية لخطاب العرض المسرحي، وجزئيات الظاهرة المسرحية، بحسب المعنى العام لمصطلح الخطاب المسرحي، مع يقيننا الأكيد، أن النقد البناء يشيع المصطلحات والمفاهيم النقدية العلمية المتداولة 
وليست المرتجلة، بوصفه نقداً تجريبياً يغزو المجهول، ويستظهر المسكوت عنه، على 
وفق قراءة نقدية مستبصرة وليست 
قاصرة.
إن المقال النقدي المتقن، لا يتهاوى بتقادم الزمن بل يقاوم عوامل الصدأ الثقافي والفكري، فيكون خير مصدر للقراء والباحثين، لأنه نتاج رقي عقل الناقد وسمو تفكيره، فلما نزل نستمتع بما كتبه النقاد (ريتشاردز وريموند وليامز، كير إيكلام، رولان بارت) وسواهم كثير، ممن دلت نقوداتهم الثرة على تسامي أفكارهم، ورفعة أذواقهم، فأضحوا مختلفين، وهويتهم مائزة من فرط خصوصيتها.