السردُ الصافي

ثقافة 2021/08/02
...

  محمد صابر عبيد
 
يمكن معاينة مصطلح (السرد الصافي) في سياق ضديّ يستلزم وجود مصطلح نقيض هو «السرد الملوّث»، كي تتمّ المقارنة بين المتضادّين للوصول إلى حقيقة السرد قدر تعلّق الأمر بالعلاقة بين الصفة والموصوف، ولا شكّ في أنّ التضاد الظاهر بين الصفتَين (الصافي/الملوّث) يحيل على معنى لغويّ سوسيولوجيّ من جهة، ومعنى أدبيّ شعريّ من جهة أخرى، وما يهمّنا قطعاً هو المعنى الثاني العابر سيميائياً للمعنى الأوّل، إذ تنفلت الدوال النعتيّة من دلالتها القارّة المستكينة الحاسمة نحو دلالة محوريّة متحرّكة تتفاعل مع طبقات المعنى وظلاله وتخومه وطيّاته وزواياه، ويبدأ التعامل مع المصطلح على أسس ومعايير أخرى ما بعد لغويّة وما بعد سوسيولوجيّة.
قد تثير صفة (الصافي) في هذا السياق المفهوميّ الما بعد لغويّ إيحاءً سلبياً داخل إشكاليّة المفهوم التي تقتضي معاينة حالة (الصفاء) بوصفها مستحيلة، أو في الأقلّ صعبة التحقّق قدر تعلّق الأمر بـ(السرد)، على الرغم من أنّ هذه الصفة في بُعدها الاجتماعيّ التقليديّ غالبا ما تستخدم في إشارة إيجابيّة إلى ما يعنيه مصدر (الصفاء) لغوياً من قيمة عالية، تندرج في منظومة الحالات التي يكون فيها الإنسان داخل أحسن حالاته من حيث الوضوح والإشراق والتجلّي والصدق، وبين فكرة السلب الدلاليّ وفكرة الإيجاب يتحوّل مفهوم (الصافي) إلى فضاء إشكاليّ يعود على السياق كي تتبيّن الدلالة المرجوة.  
 ينفتح المفهوم العام للسرد على طاقات لا محدودة من الحكي في سياقاته وأشكاله المختلفة، وإذ يستحيل وجود شيء صافٍ كامل الصفاء أو في درجة صفر الصفاء فلا يمكن العثور على سردٍ صافٍ، لأنّ السرد الصافي ربّما هو السرد الصامت أو سرد الإشارة الذي لا يتورّط في حقل اللغة المزروع بالألغام والمطبّات والمفارقات، إذ طالما أنّ اشتغال السرد يجري في المقام الأوّل داخل حقل اللغة فإنّه لا يسعه مطلقاً العبور نحو الشاطئ الآخر من دون خسائر، ومن أبرز أشكال هذه الخسائر هي أنّ السرد يفقد عذريّته المتعلّقة بفكرة السرد الصافي المثاليّة.
لا يمكن للسرد أن يقوم بوظائفه الفنيّة على النحو المطلوب من غير أن يتلوّث بسخونة الدوال وعنفها وشراستها وتحوّلاتها وتخطّيها للممنوعات، إذ تكون اللغة في قلب الحادثة السرديّة ساعية إلى سردها ووصفها على وفق الرؤية التي يتبنّاها الراوي، فالراوي إذن هو من يتنكّب مهمة السرد بلسانه ورؤيته ومجاله السرديّ الحيويّ القادر على نقل الحادثة من منطقة التأليف إلى منطقة القراءة، ولعلّ هذه المسيرة الطويلة لن يكون بوسعها المحافظة على صفاء السرد في نسخته الأولى التي نشأ عليها وقدّمَ صورته فيها، سيتعرّض في مراحل هذه المسيرة لسلسلة من الاختراقات والتداخلات والتموّجات والتفاعلات على مستوى الحادثة السرديّة أولاً، وعلى مستوى المكان والزمن والشخصيّة وعناصر التشكيل السرديّ الأخرى العاملة في هذا المجال ثانياً، على النحو الذي يسهم كثيراً في تغيير أصل الحادثة وتعديلها وإعادة تشكيلها حتّى تبلغ صيغتها النهائيّة التي قد لا يبقى من صفائها الابتدائيّ سوى آثار قليلة، وهو ما يجعل جدوى المحافظة على الصورة الصافية الأولى في هذا المضمار بلا قيمة تُذكَر، لأنّ ذلك يُعيق حركية السرد الفنيّة ويشوّه صنعتها ويُقيل منطقها الإبداعيّ الخلاق.
تبدأ روايات كبرى في تاريخ الرواية العالميّة على المستوى السرديّ بعرضِ خبرٍ صحفيّ منشورٍ في جريدة قد لا يلفت الانتباه كثيراً، يعلن مثلاً عن جريمة قتل غامضة تمّ الكشف عنها في الطابق الخمسين داخل برج شاهق مؤلّف من أكثر من مئة طابق، وإذا ما توقّف الخبر في نصف الصفحة الأولى من الرواية يكون الصفاء السرديّ قد تحقّق بنسبة عالية جداً تقترب من الكمال، وعندها ينتهي قارئ الخبر السرديّ من فعاليّة القراءة في دقائق معدودات ثم يغادر مساحة السرد بعد أن أقفرتْ وتركتْ ما بعدها بياضاً صافياً لا يقلق أحداً، وبعدها تكفّ الرواية عن الاستمرار في خوض مياه السرد التي تنتظر العبور كي يستقرّ الأمر عند حدود الخبر فتموت فكرة الرواية ويندحر أفق السرد.
 لكنّ الاستمرار في رواية الحدث على الرغم من وضوح الخبر ضمن حدوده المتعلّقة بنوع الجريمة وشكلها وتأثيرها هو ما يثير القلق ويستولد الأسئلة، ويطمح فيما بعد إلى تشكيل الرواية على النحو الذي وصلنا من روايات عظيمة في مدوّنة الرواية العالميّة، وهنا يدخل المسار السرديّ في مجال جديد يغادر فيه منطقة الصفاء السرديّ تماماً ويمحو أثرها، ويبدأ بإشاعة حالة سرديّة جديدة تتحرّك فيها الأدوات والعناصر والتشكيلات والحيوات والميكانزمات، فلا تكتفي عند ذلك بإذاعة الخبر بشكله الصافي المحدود بل تتوغّل في غابته الشائكة بكلّ ما تحمله أشجارها من مفاجآت؛ وحيواناتها من أخطار، فيفقد الصفاء السرديّ طبقات بياضه شيئاً فشيئاً إلى درجة غياب النسبة الأعلى منه ومحوها عن بكرة أبيها، وبعد ذلك يصبح الخبر الأوّل في نصف الصفحة الأولى من الرواية أثراً بعد عين على صعيد التخلخل والضياع والزوال والتحوّل، كي يُستبدَل به حدثاً روائياً شاملاً شاسعاً متطوراً يبدأ من مثابة الخبر الصغير ولا يعود إليه إلا بعد أن يتحوّل إلى كيان سرديّ متكامل ومستقلّ.