البياتي وعمق الإدراك الاجتماعي والسياسي

ثقافة 2021/08/03
...

 علوان السلمان
 
لم اصطنع حبا كهذا القطيع
ولم أبِعْ في السوق ألحاني
بهذا المضمون الشعري يبدأ الشاعر البياتي شاعريته.. إذ أعلن منذ الوهلة الأولى أن الشعر عمل خلاق وليس وسيلة للتسلية فجاهد ليحقق ذلك في حياته وغربته حتى وفاته..
إنه الشاعر الأعمق إدراكا للواقع الاجتماعي والسياسي، إذ تجاوز شعراء الرومانسية.. بيرون وشيللي وشعراء الواقعية.. اراغون.. ونيرودا..
عبد الوهاب البياتي مع سنة تخرجه من دار المعلمين 1950 أصدر ديوانه الأول (ملائكة وشياطين) فأثار اهتمام النقاد وأعيد طبعه في مصر عام 1967..
البياتي من الرواد الأوائل لقصيدة الشعر الحر (التفعيلة).. وله في التجديد هذا آراء.. إذ إنه يرى أن التجديد في الشعر لا يقتصر على العروض إنما هو ثورة في التعبير ومحاولة لجعل الشعر فنا مستقلا له أهدافه وغاياته.. ثم توالت دواوينه الشعرية فكان (أباريق مهشمة) عام 1954، و (المجد للأطفال والزيتون) عام 1956 ثم (أشعار في المنفى) عام 1957 و (النار والكلمات) عام 1964 ثم (الكتابة على الطين) عام 1967 ثم (عيون الكلاب الميتة) عام 1969 و (يوميات سياسي محترف) عام 1970.. فالمجموعة الكاملة عام 1971، و (قصائد حب على بوابات العالم السبع) عام 1972 و(السيرة الذاتية لسارق النار) عام 1974 ثم (كتاب الهجرة) عام 1975 و(قمر شيراز) عام 1975، و (صوت السنوات الضوئية) عام 1979، و (مملكة السنبلة) عام 1979، و (عائشة) عام 1989.. وله كتاب في التجربة الشعرية طبع عام 1983 وأعمال إبداعية منها (محاكمة في نيسابور) و(اراغون شاعر المقاومة) و(بول ايلوار مغني الحب والحرية)..
البياتي وجه العراق العظيم بتعلقه بأصالة الانتماء الإنساني والفني فهو الأنموذج الأخلاقي في الفكر والفن..
البياتي زاده الفكري المتنبي في طموحه والمعري للخروج من عصره المتمزق.. والخيام الثائر.. والحلاج الصوفي.. والأساطير والتراث الشعبي..
لقد عانى الشاعر من النفي مبكرا بسبب أفكاره التي تصب لصالح المجموع.. لذا كان النفي عنده رمزا للقهر.. والرحيل رمزا للخلاص..
وزنابق سود عطاش
تذوي وأسراب العصافير الجياع
ملوية الأعناق تحلم بالرحيل
لقد سلك البياتي طريق الثورة مبكرا وتعرض للقمع والسجون والنفي ولم يكف عن كتابة الشعر ولم يفرض عليه الصمت حتى بالموت فإن موته قصيدة مزهرة..
جثتي في شاطئ النهر رماد
نبتت من موقعها زهرة نار
هذا ما يذكرنا بقصيدته (عذاب الحلاج) الذي احرقوه لكن اسمه مازال حيا يتوهج كالنار.. ويزأر كالريح.. لقد اعدم الحلاج فحل في الحياة وانتصر على الموت..
يقول البياتي …
أوصال جسمي أصبحت سماء
في غابة الرماد
ستكبر الغابة يا معانقي وعاشقي
ستكبر الأشجار
لقد أجاد البياتي استغلال المعتقد الصوفي الذي يؤمن بفكرة الحلول وإمكانية البعث والعودة إلى الأشياء.. ويربطه بفلسفة الثورة والالتزام التي تؤمن بالتغيير وحتمية الانتصار.. إذ تصبح أوصاله سماداً تغذي غابة الرماد فتكبر الأشجار وتورق مبشرة بالثورة المقبلة..
لقد ظل شعره مدويا مرتبطاً بجماهيره حتى اضطر إلى مغادرة العراق عام 1955 ومن هناك في الغربة كانت مجاميعه (أشعار في المنفى) و(المجد للأطفال والزيتون) إذ إن الشعر بالنسبة للبياتي نوع من العبادة يحميه (من الضياع أو السقوط).. نوع من الطهارة والدفاع عن النفس ضد الموت.. من دونه تصبح الحياة لا مبرر لها كما يقول.. فالقصيدة بالنسبة للبياتي تمثل المقاومة والصمود ضد كل الهجمات البربرية..
قلت لكم أعود/ لكنني احترقت في الموانئ البعيدة/ وكانت القصيدة/ أسلحتي الوحيدة/ بها فقأت أعين اللصوص والضفادع البليدة..
البياتي تميزت شاعريته كونها تربط ما بين الشكل الجديد وإمكانيته في التعبير عن الرؤى الموضوعية المتمردة والثائرة فكان تمرده وثورته ضد الجمود والقوالب ثابتة والواقع المنهار..
فتلعب الصدفة العمياء لعبتها
فقد بصقت على قيدي وسجاني
لقد تعاطف البياتي كثيراً مع الحلاج لكونه شاعراً ومفكراً عانى من الغربة والمطاردة نتيجة محاربته من أجل حرية الكلمة.. فضلا عن محنة أبي العلاء وعائشة وعشتار التحدي والصراع والمنفى لأنها الولادة والموت فهي التي عانت من الأهوال في مملكة العالم السفلي من اجل إنقاذ تموز كي تعود به إلى النور.. والشاعر عانى مثلها باحثا عن الحب والعطاء وهذا لا يتحقق إلا بالصدق مع الذات لكسب القدرة على مواجهة الحياة وتغييرها..
لو جمعت أجزاء هذه الصورة الممزقة
إذن لقامت بابل المحترقة
تنفض عن أسمالها الرماد
ورف في الحدائق المعلقة فراشة ورونقة
وابتسمت عشتار
وهي على سريرها تداعب القيثار
وعادت اوزيروس
وانطفأت أحزان حادي العيس
ونورت في سبا بلقيس.
البياتي فضلا عن ذلك استخدم المثل الشعبي بكثرة في قصائده واستفاد منه باسم الواقعية والانتماء البيئي واعتماد عنصر التشويق.. (مشيت شهرا دون أن تعبر نهرا إليها يا صديق)
وقوله:
من قلة الخيول
شدوا على الكلاب سروجهم
وانتحبوا السحاب
ولا يفوتنا أن نذكر أن البياتي ترجمت أشعاره إلى الفرنسية والروسية والإنكليزية والإسبانية والفارسية.. لأنه مبدع الكلمة والصورة والثورة المتمثلة بالجماهير العريضة.