«نصوص شرقية» للشاعر عبد الوهاب البياتي

ثقافة 2021/08/03
...

 أ.د. سعد التميمي
 
تمر اليوم 3/ 8/ 2021 الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الشاعر عبد الوهاب البياتي أحد رواد الحداثة الشعرية الذين نجحوا في تجديد القصيدة العربية وإخراجها من شكلها التقليدي، وفي ديوانه الأخير (نصوص شرقية) يسترجع البياتي تجربته الشعرية من خلال توظيف القناع (المعري والشيرازي وفروزندة) ثم استشراف الموت الذي صوره قريبا منه في قصيدة (بكائية إلى حافظ الشيرازي) فهي أشبه برثاء الذات اذ يقول:
 
ناداكَ في الغيب منادٍ: (حافظَ) الأسرارْ
لم يبقَ في الجرَّةِ خمرٌ
فاكسرِ القدحْ
ولنرهنِ (الخرقةَ) عندَ سيدي الخمّارْ
.................
لم يبقَ من العمرِ سوى حبّةِ رملٍ
اينَ معبودةُ قلبي
لِمَ لا تصدحُ بالغناءْ
فالتوازي الدلالي والنحوي أحيانا في مقاطع القصيدة يعكس التماهي بين الشاعر وقناعه (الشرازي) والبحث عن معبودة القلب (فروزندة) ويتضح ذلك من خلال توظيف أفعال الكلام كالأمر (اكسر) والاستفهام (لِمَ)، إلا أن الشاعر في المقطع السابع يستسلم لشبح الموت الذي يرى أنه اقترب منه (لِمَ لَمْ يبق من العمر ...) وتأتي الاسئلة التي لتعكس قلق الشاعر وحيرته من المقبل، ويعود الشاعر مرة أخرى لاسترجاع تجربته من خلال توظيف قناع المعري في قصيدة (سجون العلاء) إذ يستنطقه بما يتعرض له من معاناة وتشرد وتشتت فيقول:
 
وتبقى بعض عظامي
طلسما لطفولة أعمى
ضيع في باب الله
سحر الألوان
في ليل «معرة» أجدادي
ولدتني أمي أعمى
كنت أرى من بين أصابعها
سفنا ترحل نحو كواكب أخرى
ولصوصا يحكم بعض منهم بغداد
وممالك أخرى
ماتت قبل ولادتها
 
فالقصيدة تصور السجون التي ظلت تلاحقه أينما حل، فالوطن والذاكرة حاضرة في القصيدة فلم تعوضه المدن التي مر بها في منفاه عن حنان وطنه ولم تضمد جراحه لأنها مازالت تنزف بالحزن والألم والأسى، فالشاعر في القصيدة يتحدث عن معاناته وأحزانه على لسان المعري وفي مقطع آخر يصور اقترابه من محطته الأخيرة، ولإحساسه بأن المعاناة التي يعيشها وشعبه طويلة، فإنه يتنبأ بأن المنفى سيكون محطته الأخيرة، فيقول:
 
ما بين الوردة والسكين
روحي قطرة ضوء تخبو
سنموت كلانا في هذا المنفى الملعون
فلماذا يا أبتي أنجبت حصانا غجريا أعمى
لا يعرف في هذا الصقع الشاسع
أين يموت
 
فالتضاد هنا يصور الواقع الذي يتمثل بالألم والحزن والخراب والمعاناة ويتشكل في المفردات (السكين، تخبو، نموت، المنفى الملعون، أعمى) والحلم يتمثل بالمستقبل الذي يتطلع له من خلال مفردتي (ضوء، الوردة) إلا أن الواقع المؤلم -مفرداته هي الراجحة- يتجلى موقف الشاعر منه ومشاعره القاتمة التي جعلته يقتنع وهو الشاعر الباحث عن الأمل بحتمية الموت في المنفى، إذ يقول في احدى النصوص الشرقية:
 
قالت: المغول قادمون
قلت: نعم
فلقد رأيتهم قبل سنوات بعيدة يقتحمون
أسوار المدينة وها أنا أراهم الآن
يقتحمون أسوار بغداد من جديد
 
فالبياتي هنا يسترجع التاريخ متمثلا بالمغول وما قاموا به في بغداد ليستشرف ما ينتظر بغداد من خراب ودمار في صورة شعرية مؤثرة، وبعد أن نخرت الغربة قواه وأحس باقترابه من الموت اختار البياتي الاستقرار جوار ابن عربي، وقد صور رحلته عبر المنافي ووصوله إلى نقطة النهاية في قصيدة أشبه ما تكون رثاء لنفسه، فيقول فيها:
 
يظهر أني أصبت بشيء
من الخوف والجنون
لأني لم أعد أتذكر
رحلتي مع «محيي الدين بن عربي»
.............................
وعودتي معه الى دمشق
لكي أموت وأدفن الى جواره
ويظهر أن أحدا ما قد نبش قبري وأزاله
ودفنني في مكان آخر لا أعرف أين هو الآن
 
فالشاعر يتماهى في رحلته مع ابن عربي رغبة في الاستقرار في دمشق ليدفن قرب ابن عربي بعد أن فقد الأمل في العودة إلى مدينته التي طالما حلم بها وتغنى بجمالها وبكى على أحزانها، ويأتي توظيفه للرموز التاريخية من خلال الذاكرة الواعية المتسعة التي يمتلكها، وتتميز تراکیب البياتي بأنها قوية وجياشة تامة الانسجام لما بين الألفاظ والمعاني من ائتلاف، ولم يكن الموت يخيف الشاعر الذي كان يعايشه في كل لحظة يقضيها في غربته بعيدا عن وطنه، ويأتي ذكر المرأة هربا من الواقع المؤلم الذي يعيشه، واذا كان البياتي قد وطن نفسه على الغربة والترحال من مدينة إلى أخرى فإن عينيه مازالتا ترقبان بغداد لتصور وتنقل للآخرين معاناتها، إذ يقول في قصيدة (أوراق بغدادية مجهولة):
 
هذه سنوات حلت فيها اللعنة
فالناس جياع
وكواكب نحس تتساقط فوق مقابر بغداد
من يدري
فالوحش الرابض
في ذاكرة الشعب المقطوع
يعود
ليأكل قبل نهاية هذا القرن
الأحياء
إذ يرسم البياتي ملامح المعاناة وصور الموت التي يعيشها الشعب، ويصورها باللعنة التي حلت بالشعب، ويعزز ذلك  المعجم الشعري الذي يحيل الى المعاناة والموت والحزن والأسى مثل  (اللعنة، جياع، نحس، مقابر، الوحش، المقطوع، يأكل، حرائق، خراب، البكاء ،الموت)، إذ لم تخل مقاطع القصيدة الاثنا عشر من هذه المفردات، وبذلك يكون البياتي في ديوان (نصوص شرقية) أراد استرجاع تجربته الشعرية بجميع أشكالها وأساليبها ومستوياتها بشكل موجز، فجاءت القصائد بمثابة صحوة موت أيقن الشاعر أنه منتقل قريبا إلى عالم آخر يعم فيه السلام والعدل تاركا وراءه هموم وطنه
وشعبه.