قافية المتنبي في الخطاب النقديّ

ثقافة 2021/08/03
...

 د. عبد الكاظم جبر
 
يذهب كثيرٌ من النقاد إلى كون اختيار القافية سببًا في امتحان طبع الشاعر، فينكص دونها أو يفوز بحسن نظمها وانسجامها، وهذا يعني أن للقافية أثرًا في لغة النص الشعري جميعًا، ولا يكون أثرها وسلطانها منحصرًا في الاستدعاء الاضطراري للكلمات المتناسقة في الطرف القصي من الأبيات، بل قد يتعاظم فيمتدّ إلى التركيب والمعاني، فالقوافي ينبغي لها أن تكون «قواعد للبناء يتركَّبُ عليها ويعلو فوقها، ويكونُ ما قبلها مسبوقًا إليها ولا تكون مسبوقةً إليه، فتقلق في مواضِعها...» وكل ذلك بالنظر إلى سلطان القافية على البيت، التي قد تكون عقبة كؤودًا في طريق المبدع. ولكنّ سلطانها في بناء اللغة الشعرية وافتراع المعنى؛ يتقهقر أحيانًا أو يكون باهتًا كلما اقتربنا من الطرف القصي الآخر، وفي المقابل أيضًا قد يكون حاضرًا مبسوطًا على البيت كلّه.
ومن وقوع القوافي متمكّنة في محالّها ما ذكره ابن سنان من قوافٍ، جعل منها ما في قول أبي الطيب:
 
يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْـــــنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ 
وِجدَانُنَا كُلَّ شَــيْءٍ بَعْدَهُمْ عَدَمُ
إِنْ كَانَ سَـــرّكُمُ مَا قَالَ حَاسِدُنَا 
فَمَا لِجُــــــرْحِ إِذَا أَرْضَاكُمُ أَلَمُ
وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعـرِفَــــــةٌ 
إنّ المَعارِفَ في أهل النُّهَى ذِمَمُ
 
وكذا هي موضع استحسان عند الحموي، بيد أنهما لم يبينا هذا التمكّن، أو لنقل: سلطانها، الذي هو بمعنى آخر سلطان الشاعر وتمكّنه من زمام البناء الشعري، ويبدو أن مراعاة القافية كان له تأثير في نسج البيت وصياغته، فقد ماطل المتنبي التركيب بإعادة ترتيبه للمكونات النحوية، حتى يأتي بالقافية منسجمة في موسيقاها، ونحوها، ودلالتها التركيبية، من غير أن يحدث خروجًا منكرًا عن سنن النحو، وكذلك يفعل الشعراء، أو أن يحدث غموضًا أو التواءً في المعنى. فتقديم (بعدكم) على كلمة القافية (عدمُ) يتناسب مقاميًّا مع الشيء الأهم (كون فراق الأحبة صعبًا)، وكذا تقديم (إذا أرضاكم) على (ألمُ)، فهو يتناسب ومقام (كونه يتحمل الأذى من أجل ممدوحه)، ومثل ذلك يقال في تقديم (في أهل النهى) على (ذممُ). 
 ولعلّ مردّ الحسن والعذوبة في مطالع قصائده، عند النقاد، يعود إلى حسن ائتلاف القافية واستقرارها، فهو يُعنى بها كثيرًا، ويكثر من مراجعتها.
ومدح بعض شرّاح شعر أبي الطيب موقع القافية، لهذا الائتلاف والتمكن؛ في قوله: 
 
وَلا سَمِعْتُ وَلا غَيرِي بمُقْتَـــــدِر 
أذَبَّ مِنكَ لزُورِ القَوْلِ عن رَجُلِ
فقال: «وقوله (عن رجلِ) يعني: (المغتاب)، ولم يقل: (عن إِنسان)، ولا (عن مغتاب)؛ لأجل القافية، وجاء عذبًا من أحسن الكلام»، ومثل هذا البناء الذي تتجاذبه القافية وتمسك بخيوطه ما في قوله:  
 تُمسِي الأمانيُّ صَرْعَى دونَ مَبْلَغهِ 
فَمَا يَقُولُ لشيءٍ لَيتَ ذلكَ لي
 
فـ (لي) وحدها، أو مع ما قبلها (ذلك)، هي من الاستقرار بمكان، ولا التفات إلى قول ابن الأثير في كونها منقطعة عما تقدمها، ويبدو أن انقطاعها عنده متأتٍ مع عدم توقعها. وهذا يجب ألا يعني أن كل قوافي أبي الطيب مؤتلفة غير متكلفة، فلقد وقف فريق من القدماء والمحدثين على جملة من القوافي المصنوعة، وطال وقوفهم عندها، كالتي في زائيته، والتي منها:
 
شَغَلَتْ قَلْبَهُ حِسانُ المَعالي 
عَنْ حِسانِ الوُجوهِ والأعجازِ
 
ورأى بعضهم أن سلطان القافية، هو الذي أركبه هذا المركب الصعب، فكانت سمجة في معناها المعجمي، في هذا الموضع، وتركيبها بالعطف ولّد طباقًا صفيقًا، كما يذكر طه حسين، وأشنع من معنى هذه القافية، ما في قوله:
إنّي على شَغَفي بِما في خُمْرِها 
لأعِفُّ عَمّا في سَراويلاتِهَا
 
فكانت الكناية في (سراويلاتها) شيئًا شنيعًا من قبل المعنى، حتى قال أحد شيوخ أبي هلال العسكري: (الفجور أحسن من عفاف يُعبّر عنه بهذا
اللفظ).
ويبقى أن نشير، ولا بدّ أن نشير، إلى أن ضيق الشكل الموسيقي والالتزام القافوي في الشعر القديم، بإزاء سعة المعاني، يدفعان بالشاعر المكين إلى التوليد اللغوي والعدول عن الشائع من التراكيب التي تفضي إلى صور شعرية مبتكرة، كالذي نجده في ما ولدته القافية في قول المتنبي:
 
ألَيْسَ عَجيباً أنّ وَصْفَكَ مُعْجِزٌ
وَأنّ ظُنُوني في مَعاليكَ تَظْلَعُ؟
 
وقد رأى الحاتمي الاستعارة التي أنشأتها القافية، في قوله (وأن ظنوني في معاليك تظلع) استعارة قبيحة، إذ ليس للظنون فعل حقيقي فيُستعار (الظلع) له، ولو قيل: ظن عازب أو كاذب أو مصيب لكان ذلك استعارة واردة، ولم يكن لعربي فصيح أن يجاري استعارة كهذه. ونحو هذه الاستعارة التي أفضت بها القافية ما في قوله راثيًا أمّ سيف الدولة:
 
صَلاةُ الله خالِقِنا حَنُوطٌ 
على الوَجْهِ المُكَفَّنِ بالجَمَالِ
 
فكون الوجه مكفنًا بالجمال استعارة جديدة لم تطأها قرائح المبدعين، دفعته إليها القافية، وقد استثارت هذه الاستعارة سخرية ثلة من النقاد، فقال قائل: (ما له ولهذه العجوز يصف جمالها؟!) وقال مناوئه ابن عباد: (استعارة حداد في عرس). والحق أن الاستعارات التي هي من هذا النوع ضرب من شجاعة اللغة الشعرية التي فتح بابها أبو تمام، وتمثلها المتنبي وبرع في شيء كثير منها.
وبعدُ، فقد كانت القافية عند النقاد طرفًا مهمًا في تركيب شعر أبي الطيب، بل إنها الطرف الأهم، فهي (الملكة الجميلة المستبدة)، التي تحدد مجال الاختيار المتاح بين يدي الشاعر، ولكنها في الوقت نفسه لا تصادر أسلوبه في ارتكابها ومعالجتها، لتكون سيدة النص التي تعود إليها مقالده.