طالبان الجديدة.. درس في جدلية الصعود والهبوط

العراق 2021/08/16
...

ابراهيم العبادي
 
تفاوتت تقديرات وكالة الاستخبارات الاميركية للمدة التي تحتاجها حركة طالبان لدخول العاصمة الافغانية كابول. ادنى التوقعات كانت بحدود الشهر واقصاها 90 يوما، بيد ان الانهيار كان اسرع من كل التقديرات، إذ بدأ العالم يستفيق ويستعد في الآن ذاته لحدث تاريخي ضخم له تبعاته الستراتيجية المدوية، ليس على السلم والامن والعلاقات الدولية فحسب، بل على الفكر والاجتماع السياسي والديني.
حينما دخلت طالبان العاصمة الافغانية عام 1996 واسقطت حكم حركات المجاهدين الافغان، حيث التنافس على السلطة بين قطبين اسلاميين اصيلين هما البشتون بزعامة قلب الدين حكمتيار والطاجيك برئاسة برهان الدين رباني، فهم المراقبون يومها ان عصبية جديدة (وفق منطق التفسير  الخلدوني لقيام وسقوط الدول)دخلت على خط الصراع، عصبية ايديولوجية تتبنى فكرا من اعماق القرن السابع الهجري، مؤطرا بحركية تنظيمات الاسلام السياسي،  ومتسلحا بتراث قومي شديد التعصب.
اهتم الباحثون كثيرا بسر هذا الاندفاع الصاروخي لطلبة العلم الشرعي الذين كانوا يفترشون الارض لمتابعة دروس دينية في الاف المدارس والمساجد الباكستانية التي كانت تصنع عالما من التراجع المخيف عن فكر الحركات السياسية الدينية المعاصرة الى ماهو اكثر سلفية وجمودا وانغلاقا، (كان للاستخبارات الباكستانية وبعض الدول الخليجية دور مؤثر، وبينما كان العالم يشهد اضطراد فكر العولمة ونهاية التاريخ الفوكويامي، كانت طالبان تلغي الجمهورية والدستور (الحديث )وتؤسس امارة اسلامية بهرميتها ورمزيتها السلطانية الاسلامية، وتعلن نفسها نموذجا مفارقا للعصر،  ومتراجعا عن مكتسبات الفكر الانساني، بل والاسلامي الحديث.
بعودة النسخة المتجددة من طالبان على انقاض عشرين عاما من الدولة التعددية الاقوامية في افغانستان بزعامة نخب سياسية غربية التعليم والثقافة وبحماية دولية، تكون طالبان قد اثبتت للعالم ان شعوبا وقبائل ودولا مازالت تستثمر في الاضطراب الكبير في منطقتنا (العامل الخارجي)  وان جدلية الانقسام والتوحد والحنين الى الماضي المتخيل في قبال حاضر متخم بالفساد والمحاصصة وهشاشة الدولة وانهيار المؤسسات، هي ابرز الاشكاليات التي منعت وحالت دون استقرار الدولة على اسس متينة راسخة تمكنها من اداء واجباتها ووظائفها ومسؤولياتها تجاه مواطنيها، بما يدفع المواطن للدفاع عن دولته ضد اي تهديد داخلي وخارجي. الاستسلامات والانهيارات النفسية وتبخر الجيوش والاجهزة العسكرية والامنية الافغانية بعد عشرين عاما من الدعم والانفاق المالي، كل ذلك يثبت ان البناءات الهشة لاتصمد امام مفاعيل قوة مؤدلجة، سقوط كابل يعيد التذكير بسقوط الموصل (كانت يوما عاصمة الحمدانيين الشيعة)والاقتراب من بغداد عام 2014 ،وسقوط الرقة (عاصمة الرشيد في ذروة الزهو والرخاء) وحلب وحصار دمشق في العام الذي سبقه، انها خطوط النار التي تذكر شعوبنا ونخبنا بأن للتاريخ مكرا مدمرا، وان دروس الماضي القريب والبعيد تعيد تشكيل ذاكرة سياسية متخمة بالصراعات والعداوات ينبغي الحذر منها، مالم تنتزع مكونات ومفاهيم الجماعات المتخيلة والدول الدينية.