الطقوس وقيم النظام الاجتماعي

آراء 2021/08/22
...

 د. عدنان صبيح
ليس من السهل على الانسان في العصر الحديث ان يعلن أنه طقوسي، بالخصوص عندما يختلط على الناس الذين يريدون أن يركبوا سفينة الحداثة بأسلوبها الشعبي غير المستند الى مداخل علمية او معرفة الجوانب المخفية في دراسة المجتمعات بشأن الطقوس، ويعتقدون بأن الطقوس هي ممارسات بدائية، وما سلوكها الا محاكاة مع الزمن البدائي.
 
اثبتت الدراسات الانثروبولوجية بان الطقوس تعمل على ثبات النظام المجتمعي وتمنع انهياره، وهذه عبارة أحد الانثروبولوجيين «بان الطقوس تمنع انهيار النظام مثلما تمنع السدود خطر الفيضانات».
لم تكن السدود حامية بصورة كاملة للفيضانات فقد تتآكل في يوم ما، وقد تقل فعالية الآلات في منع الكوارث، الا أن الطقس يضمن ثباتا مستمرا من خلال عملية التجديد التي تمنع تآكل النظام.
يشير روجيه كايوا في كتابه الانسان والمقدس بأن هناك نوعين من الطقوس يجب التمييز بينهما. الاول يسمى طقوس التقديس، وهي التي حولت شخصا معينا او كائنا او شيئا نحو التقديس. طقوس تعلو بالناس، تضعهم في دائرة بعيدة عن المحرمات. 
والنوع الثاني هو طقوس «التكفير» والمقصود هنا بالتكفير «التعويض عن الخطأ»، وتلك الطقوس تقوم بجلب المقدس الى الواقع الاقل طهارة. بل هي تحتك بالمحرمات، وتكون لها سلوكيات محددة. وبذلك فان الطقس الاول هو إيجابي؛ لأنه يتحمل الاضافات ويعمل في مساحات انسجام وتكيف الثقافات المختلفة. بينما الثاني فهو يمنع فيه الاضافات او صنع قوالب جديدة لأنه يعمل باحتكاك مع المحرمات، ومن ثم لا يعمل الا في دائرة ضيقة تلتزم بممارساته من دون تجديد او تكيف مع المجتمعات المتنوعة. فالخوف أن يتمازج معها لذلك يمنع الابتداع فيه، ويسمى الطقس
 السلبي. 
ونحن ننظر الى الطقس الحسيني، وقد يخشى البعض كلمة طقس على أجواء عاشوراء، لاعتقاده بانه لا يتوافق مع الاسلام، الا أن المعاجم الحديثة أصبحت لا تفرق بينه وبين الشعائر من جهة. ولأن الطقس الحسيني يشبه الفئة الاولى من الطقوس التي أشرنا الى انها تتحمل الإضافات، وما دامت الاضافات انسانية فهي أقرب الى مفهوم طقس منها للشعائر.
وهذا ما كان المقال يريد الوصول اليه، هو السؤال عن الطقس الحسيني والعلاقة المجتمعية معه، وهل ان المساحة الممنوحة قد ساعدت في صنع مجتمع رغم تنوعه يمكن ان نطلق عليه بانه طقوسي؟ وهل كان ذلك كفيلا في صنع مجتمع أكثر انسجاما؟.
 المساحة التي يحملها الطقس الحسيني كونه طقس تقديس. لان الممارسين فيه يرون بأنهم داخل دائرة الحسين «ع» ويريدون ان يصعدوا معه من خلال الطقوس الى عالم التقديس، فهي دائرة تتسع مساحتها، ولا تنغلق على ممارسات بعينها، ولذلك لا تجد حساسية في ممارسة الطقوس في عاشوراء عند كثير من العراقيين، الذين ينتمون الى ديانات ومذاهب غير المذهب الشيعي المعتنق للممارسة. بل لا يعترض الشيعة على ممارسة الاخرين طقوسهم ولا يخافون بتغيير الالفاظ مثلا. او عمل حركة لا تشبه الحركة المطلوبة، وعدم ورود هذا الاعتراض بسبب اقتناعهم بأن طقس عاشوراء يتحمل التكيف ولا يخشى عليه من اضافة عناصر ثقافية، بل هو يسمح بالإضافة من اجل التكيف مع الثقافة الممارسة داخلها، بل ويحاول ان يكون جزءا منها، ولذلك تتابع الشعائر في الهند وباكستان وإيران وغيرها من الدول تمارس الشعائر الحسينية بطريقة ما تنتمي الى ثقافاتهم، ولا يوجد نص ثابت للطقس يفرض على الممارسين أجواء مخالفة لسلوكهم. وذلك ما يجعل الطقس الحسيني عنصرا ثقافيا متماشيا مع المجتمعات التي تتميز بالتنوع الديني والثقافي. بل انه قادر على أن يجعلهم أكثر انسجاما وتكيفاً. وما يتعلق في كون الطقس يعمل على صناعة مجتمع أكثر تماسكا وانسجاما، فان الانثروبولوجيين يشيرون الى أن الطقس ببساطة يقوم بتحويل استذكار الحرب الى احتفال، وهذا منعطف يستحق الإشارة اليه. وكيف يعزز دور الطقس في بناء النظام لا تهديمه او خلخلته. 
ان استذكار الحروب بما فيها يجعل من المجتمع قابلا للانشقاق والتهديم. كون الاستذكار يقوم باستدعاء المشكلة، وبين مؤيد ومعارض. فهناك جهتان تقاتلا، وهناك جهتان الان تتقاتلان من اجل اثبات أحقية أحد الأطراف. بينما تحويل استذكار الحرب الى طقس احتفالي يعمل على إزالة تلك التوترات، بل بمعنى أن الطقس يختار الاشياء الاكثر انسجاما داخل المجتمع وبدلا من ان يتم استذكار الحرب يتم الاحتفال باستذكار الحرب بطريقة طقوسية، فيها الحركات والإيماءات والرموز، فيها الاكل والشراب، والانشغال بها يغطي على الأجواء المشحونة في استذكار الحروب. فبدلا من ان يكون استذكار الحرب عنصر افتراق، يحوله الطقس الى عنصر التقاء. وبدلا من الأجواء المشحونة، يعمل الطقس على تفريغ تلك الشحنات بطريقة احتفالية. 
يختار الطقس نقيض ما يختاره الحرب وهي الدعوة الى التكافل والمساعدة، بدلا من الغنيمة وقتل الضعيف وعناصر أخرى ترافق الحروب. 
ولذلك يؤمن الطقوسيون بان الطقس يعمل على ردم الهوة الحاصلة بين المجتمع، سواء على مستوى التنوع الديني، او على مستوى اختلاف الرؤى والانتماء. وان كان ذلك الردم او تقليل الفجوة يكون بزمن معين «داخل الطقس»، الا انه يعمل على ثبات النظام ومنعه من الانهيار، لذلك نحن طقوسيون.