الحرب والموسيقى

آراء 2021/08/30
...

 د. حيدر شاكر خميس
 في أواخر العام 1860 كانت عناوين الصحف الصادرة في الولايات المتحدة الاميركية من قبيل «الجنوب ينفصل» و«الاتحاد ينحل» تعلن انفصال الولايات الجنوبية تباعا، وانفصام عرى الاتحاد، وتصدع كيان الولايات المتحدة الاميركية للمرة الاولى منذ استقلالها عن بريطانيا في العام 1776.
لم يكن انفصال الجنوب حدثا مفاجئا، اذ بدأت بوادر الخلاف منذ مؤتمر صياغة الدستور الاتحادي في فيلاديلفيا عام 1787 عندما طالبت ولايات الجنوب بأن يتضمن مادة تعترف بوجود العبودية في البلاد، وتمت في النهاية تسوية الامر بالوصول الى حل وسط، عندما التزم الدستور الصمت تجاه قضية العبودية، تاركا لحكومات الولايات صلاحية التعامل معها داخل اراضيها، لكنه مقابل ذلك لم يشر في بنوده الى العبيد بشكل صريح.
 تفاقم الخلاف بين نصفي البلاد في قضية العبودية، ووصل الجدل حولها الى ذروته في منتصف القرن التاسع عشر، اذ عدها الشماليون مسألة غير اخلاقية يجب القضاء عليها، بينما تمسك الجنوبيون بها بوصفها تشكل الهيكل الرئيس لنظامهم الاقتصادي والاجتماعي، ووصل الخلاف ذروته في الانتخابات الرئاسية في عام 1860، التي فاز بها «الحزب الجمهوري»، الذي تأسس في الشمال بهدف معارضة العبودية، وجاء رد الفعل الجنوبي على هذا الفوز سريعا، اذ سرعان ما أعلنت ولاية كارولينا الجنوبية انفصالها عن الولايات المتحدة الاميركية في 20 كانون الاول 1860، ثم تبعتها ست ولايات جنوبية اخرى في كانون الثاني وشباط من العام 1861، وشكلت دولة جديدة باسم «الولايات الكونفدرالية الاميركية «، وسرعان ما اندلعت الحرب بين الدولة الفتية والوطن الأم في 12 نيسان 1861، تلك الحرب التي عرفت باسم «الحرب الاهلية الاميركية»، واستمرت حتى العام 1865.
 على الرغم من أن الموسيقى كانت موجودة قبل الحرب، الا أن ذلك الصراع الدامي دفعها الى آفاق جديدة من الأهمية، فقد ألهمت الحرب خيال الشعراء والكتاب الموسيقيين وخلدوا وقائعها شعرا ونثرا وموسيقى لتبقى روائع خالدة وشاهدة على تلك المرحلة المريرة من التاريخ الاميركي، واحدثت طفرة كبيرة في تأليف الاغاني في الدولتين، اذ يقدر المؤرخ كريستيان ماكويتر عددها بأكثر من 9 آلاف اغنية، ألفان منها قد صدرت قبل اندلاع الحرب وفي السنة الاولى منها، وبدأت مع اعلان الكونفدرالية، عندما كتب الايرلندي المهاجر الى الجنوب الاميركي هنري مكارثي اغنية «العلم الازرق الجميل»، التي أرخت ميلاد الدولة الجديدة، التي اطلق عليها شعبيا اسم «ديكسي»، نسبة الى اسم الماسح البريطاني جرمايا ديكسون، الذي قام بتحديد الخط الفاصل بين ولايتي بنسلفلنيا وماريلاند اثر النزاع الحدودي، الذي حصل بينهما بين عامي 1763 - 1767.
 إن من الصعب حصر الاغاني والاناشيد، التي تم تدوينها وترديدها في سنوات الحرب الاهلية، ولا يزال بعضها محفورا في ذاكرة التراث الاميركي، مثل «صرخة معركة الحرية» و«عندما يرجع جوني الى الديار» في الشمال، و«ارض ديكسي» و«هلموا الى السلاح في ديكسي» و«من اجل محاصيل القطن» في الجنوب، و«انا متمرد جنوبي قديم»، وكانت هذه الاناشيد معاناة الجنود الاميركيين من كل الطرفين، وتحثهم على مواصلة القتال من اجل النصر، او تمجد لانتصارات تحققت في جبهات القتال، وغالبا ما كانت كلمات والحان هذه الاناشيد مستوحاة من الاغاني الاوربية، التي ظهرت في الحروب التي دارت رحاها في القارة العجوز في القرن التاسع عشر، وابرز ما يلاحظ فيها هو الحرب الثقافية، التي اندلعت بين الطرفين المتحاربين، اذ ما أن تظهر أغنية جديدة، حتى يقوم الطرف الثاني بإعادتها باللحن والايقاع نفسه مع تغيير الكلمات. فأغنية «اتحاد ديكسي» التي نظمت في الشمال جاءت لتسخر من نشيد «ارض ديكسي»، الذي كان نشيدا غير رسمي لجمهورية الولايات الكونفدرالية. 
 وفضلا عن ذلك، فقد اظهرت الحرب لحن Taps، الذي استخدم لأول مرة من قبل العميد الاتحادي دانيال باترفيلد، بعد دفن الجنود القتلى في معارك شبه جزيرة فرجينيا، التي اندلعت بين اذار – تموز 1862، وتم الاعتراف به من قبل حكومة الولايات المتحدة الاميركية في عام 1874، ليستخدم في اقامة مراسيم الجنازات
 العسكرية. 
 
  باحث وأكاديمي