المنهجية الأنثروبولوجية.. في مشروع محمد أركون الفكري

آراء 2021/09/04
...

  د. يحيى حسين زامل 
 ألمح كما يلمح غيري من المتابعين لكتابات الباحث والمفكر «محمد أركون»، ميوله الأنثروبولوجية، ونزعة الأنسنة في كتاباته وحوارته، وعلى الرغم من موسوعيته الفكرية فإنه لا يترك مناسبة إلا ويذكر «الأنثروبولوجيا» بصفتها علماً، ومنهجاً وأداة للتحليل في الفكر المعاصر، لذلك نشهد له في أكثر من مؤلف نصوصاً واضحة البيان لا تقبل اللبس أو الغموض استعماله الدلالات الأنثروبولوجية في التحليلات الثقافية والدينية واللغوية، تعبيراً عن سعة الأنثروبولوجيا واستيعابها لكثير من العلوم والفروع حتى أصبحت كلمة مركبة مع الكثير من العلوم، من قبيل الأنثروبولوجيا الثقافية، أو الرقمية أو الجينية، أو أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة، أو السايبورغ.. إلى غيرها من فروع الأنثروبولوجيا المعاصرة. 
 
 تحظى الأنثروبولوجيا بأهمية كبيرة في مشروع «أركون» الفكري، وترجع هذه الأهمية من خلال تأثيرات عدِّة أنثروبولوجيين فرنسيين، مثل الأنثروبولوجي الفرنسي «روجيه باستيد» وعمله «الأنثروبولوجيا التطبيقية»، ومبرر اهتمامه واستعانته بهذا العلم هو رفضه واستبعاده للأحكام التصنيفية التفضيلية بين الثقافات، وهو التوجه الذي أفتتحه الأنثروبولوجي الفرنسي «كلود ليفي ستروس»، الذي وظَّف مفهوم «نسبية الثقافات» لتفنيد مسألة التفاوت الثقافي الغربي في مقابل تدَّني الثقافات الأخرى، وقد وظَّف «أركون» مفاهيم عدِّة من «ستروس»، مثل أنظمة القرابة، والأسطورة، فضلاً عن مفهوم «نسبية الثقافات» الذي اعتمده «أركون» في نقد الثقافة الغربية ومركزيتها، كما أستدل بأبحاث الأنثروبولوجي الفرنسي «جورج بالانديه»، في ما يتعلق بالآليات السلطوية التي تستعمل لإضفاء المشروعية واحتكار السيادة العليا، مبيناً أنه لا توجد سلطة سياسية في أي مجتمع بشري من دون إخراج مسرحي يؤبد نوعا من الاحتفالات والتقاليد ذات النمط الديني، ولقد امتدت هذه التأثيرات إلى وقت متأخر من حياة «أركون»، وانعكست على أبحاثه وكتبه وحوارته، حتى وصل إلى تنظيراته وتأويلاته وتحليلاته 
الأنثروبولوجية.
 
الأنثروبولوجيا العلم المُغيَّب عن الساحة
 وفي معرض الإجابة عن أحد الأسئلة «من أين يجيء العنف الطاغي في المجتمعات البشرية؟» يجيب «أركون» : إن الوصول للسلم أو الخروج من حالة العنف إلى السلم يفرض على المجتمعات والدول أن تتبنى دراسة وتدريس أنواع من العلوم الاجتماعية التي تعتني بظاهرة العنف في كل مجتمع، ولمواجهة هذه الظاهرة، وللإجابة عن السؤال أشير الى ضرورة دراسة وتدريس «علم الأنثروبولوجيا» هذا العلم الذي قلت سابقاً – والكلام لأركون- لا يزال غائباً عن برامجنا وبحوثنا العلمية، حتى في أوروبا نفسها، ونحن لا نزال، مع الأسف نعتمد تعاليم طقسية ايديولوجية وندعو الناس لكي يطيعوا هذه التعاليم لنخرج من دوامة العنف، لكننا لم نحلل بعد ولم نقرأ بعد، في الناحية التاريخية والأنثروبولوجية»، وهنا يقف «أركون» على أهمية الأنثروبولوجيا في تحليل وحلحلة الظواهر والازمات والانعطافات التاريخية والثقافية في أي مجتمع، لأنها – الأنثروبولوجيا- تنظر للجميع بعين واحدة، وإلى الظاهرة أو الثقافة أو المجتمع بموضوعية وبدون تحيز أو ميول، وبتجرد من أي ايديولوجية، بوصفها خلفية ثقافية للبحث والباحث.
 
المثلثات الأنثروبولوجية
 وفي «كتابه القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني»، يشير إلى الأنثروبولوجيا بكونها علماً حديثاً يمارس عمله كنقد تفكيكي على صعيد معرفي لجميع الثقافات البشرية المعروفة، كما إنه يمارس عمله هذا بعيداً عن التأويلات التاريخانية الايديولوجية، وقد أثرت الأنثروبولوجيا أو أخصبت التفكير الحديث عن طريق بلورة ما اسماه بـ «المثلثات الأنثروبولوجية» «Anthropological triangles » وهي مثلثات من نوع : «العنف والتحريم والحقيقة» أو «الوحي والتأريخ والحقيقة» أو «اللغة والتاريخ والفكر»، وقد وظّف «أركون»، هذه المثلثات توظيفاً جدلياً واجتماعياً ونفسياً ودينياً في الخطاب القرآني، وفي نصوص من الخطاب النبوي«ص7»، وفي هذه الرؤية فهو يحلل الخطاب الديني عامة في إطار حداثي يحيله إلى مستوى أوسع ومنظومة معرفية أكثر تفتحاً وأشمل إحاطة بما أضافته الحداثة العلمية من نظريات وشروحات وتأويلات ووسائل خارج إطار ما يسمونه التفسير بالموروث. 
 
المقاربة الأنثروبولوجية للأديان التوحيدية
 وفي مجال «الأنثروبولوجيا الدينية» يرى «أركون» أن المقاربة الأنثروبولوجية لم تنجح في أول الأمر من فرض نفسها على الأديان التوحيدية، والسبب في ذلك هو إيديولوجي بحت، كما أن الغرب أهتم بالأديان غير المسيحية ضمن المنظور الاثنوجرافي، وقد استطاع هذا المنظور مع نظرية العقلية البدائية أولاً، ثم مع النظرية الفينومينولوجية الحيادية ظاهرياً ثانياً، ثم أخيراً مع نظرية التشريح البنيوية أن يبرز الديانة اليهودية والمسيحية وخصوصيتهما، ولا يزالون حتى اليوم يستعملون علم الألسنيات، والتحليل النفسي، وتاريخ الأديان.. إلخ، من أجل إعادة التفكير أو تجديد التفكير في الحقيقة المطلقة أو العليا للعقيدة اليهودية – المسيحية، ويستعملون لتحقيق هذه الغاية تبحراً علمياً واسعاً وخصوبة منهجية ضخمة، ولا يزال الإسلام مستبعداً من هذا المشروع العلمي والفكري الكبير، وهذا الاستبعاد هو الذي يسمح لنا بأن نستنكر أو حتى ندين التوجه الإيديولوجي لما يمارس في الغرب تحت اسم العلوم الدينية.
البعد الأنثروبولوجي في النص القرآني
 وكمثال تطبيقي لهذه المنهجية يتناول «أركون» سورة «الفاتحة»، ويقول : « من السهل أن نلحظ أيَّاً من هذه الكلمات ليست مرتبطة بعائد محدد أو معروف بدقة، على العكس، فإن كل واحدة منها تحيلنا إلى ذروة أو عدة ذرى كان القدماء قد لاحظوا هذا الانفتاح الذي تتمتع به هذه الكلمات والتعابير وذلك عندما أشاروااليه  قائلين: الحمد لله...الرحيم: هذا التعبير يحيلنا إلى علم الأصول الأنطولوجية والمنهجية للمعرفة، مالك يوم الدين: يحيلنا إلى علم الأخرويات «أي مجموع العقائد المتعلقة بالعالم الآخر كالبعث والحساب»، إياك نعبد: يحيلنا إلى الطقوس والشعائر، إهدنا الصراط المستقيم: يحيلنا إلى علم الأخلاق، الذين أنعمت عليهم: يحيلنا إلى علم النبوة، غير المغضوب عليهم: يحيلنا إلى التاريخ الروحي للبشرية والشعوب أو الأقوام القديمة، وهكذا نرى كيف أن كلية المعرفة الإسلامية متمركزة أو متكثفة في بعض التعابير البسيطة، ولكن ربما قال بعضهم: لقد أسقط المفسرون القدامى على نص الفاتحة، معرفة معينة وممارسة معرفية كانتا قد شخصتا من قبل أجيال عديدة متلاحقة، ولكن هذا الأعتراض، لا يفعل إلا أن يقوِّي «البعد الأنثروبولوجي» الذي نريد الإشارة إليه أو التركيز عليه، فالواقع أن مفردات الفاتحة وبناها النحوية عامة جداً، ومنفتحة جداً على جميع ممكنات المعنى، إلى درجة أنهما تمارسان دورهما كحقل رمزي تنبثق منه وتسقط عليه مختلف أنواع التحدیدات والمعاني، ولكن لا توجد أي معرفة ولا أي نظام معرفي يمكنه أن يستنفد معناها أو أن يثبته نهائياً، وهكذا نجد أننا حتى اليوم يمكننا أن نسجل في مواجهة كل علم من العلوم المشكلة من قبل المسلمين برامج بحوث متنوعة الاختصاصات والعلوم، وهذا يعني أننا إذا ما أعدنا قراءة نص الفاتحة أو جددناه كما فعلنا آنفاً، فان ذلك يجبرنا على إعادة العلاقة مع الأسئلة الأصلية أو
 البدئية. وهكذا هناك الكثير من الجهود والاشتغالات الأنثروبولوجية التي قام بها «أركون» في عدِّة من مؤلفاته، لا سيما المذكور في أول المقال، وهي تعبر عن الوعي بالأنثروبولوجيا علماً ومنهجاً، ولو صنف علمياً لكان أنثروبولوجياً بلا جدال، ولكن الرجل كان فوق التخصص، ومن الظلم ان نحدده بعلم وتخسره العلوم الأخرى، فكان موسوعياً ملماً بشتى التخصصات لاسيما المعاصرة منها، كما أن فقده كان خسارة كبيرة للعلوم والمعرفة، لا سيما 
الأنثروبولوجيا.