الابتكار والتفوق.. رهان النسويَّة الدائم

ثقافة 2021/09/07
...

   د. نصير جابر
 
تبدو الإحصائيات الدقيقة المستندة إلى لغة الأرقام، اللغة التي لا تكذب أبدا واحدة من مصادر النظرية النسوية التي تعود إليها دائما لتدعيم كثير من مبانيها الفكرية ومواقفها وطروحاتها وتلك -أي الإحصائيات- توفر كذلك فرصة للتأمل في مسارات الحراك النسوي وبؤر تأثيره المباشر وغير المباشر في نسيج المجتمع ونوع هذا التأثير ومداه.فلسنوات طويلة جدا تربّعت النساء على قائمة الأوائل في الدراسة الاعدادية وبفروعها كافة حتى لا نكاد نجد بين (10) الأوائل ذكرا واحدا إلا ما ندر وإذا كان هذا الخبر سابقا يمرّ من دون انتباه في مجتمع لا نوافذ فيه، فإنه اليوم خبر مختلف جدا يدعونا إلى تأمل جوانبه وسبر أغواره وتفاصيله الدقيقة وقراءة ما بين سطوره وربط كل ما ينتأ عنه من تسويغات واحتمالات بالنظرية النسوية المعاصرة في محاولة للتفسير والتحليل. فعادة ما يرافق هذا التميز المستحق في لحظته الاشهارية الكبرى -لحظة تكريم المتميزات أو اعلان النتائج- سيل من التحليلات الذرائعية التي تحاول أن تسوّغ تفوق المرأة العلمي وهي بحد ذاتها -أي هذه التسويغات- محاولة ذكورية للتشكيك بقدرات المرأة، إذ إن مجرد استغراب التفوق منها اهانة مبطّنة لا داعي لها ولا دليل عليها.
ولعل من أشهر ما يسوغ به نجاح المرأة هو أنّها لا تخرج من البيت فهي حبيسة بين أربعة جدران ووقتها كلّه مكرّس للدراسة والمتابعة، وهناك من يؤكد أن سرّ تفوقها هو رغبتها بالذهاب إلى الجامعة والخروج من مصير الزواج المبكر، وكأن ذات المعدل الضعيف لا تدخل للجامعة أو أن أعمال المنزل الكثيرة لا تأخذ من وقت الدراسة!! ولكن الحقيقة أن كل هذه التفسيرات تحوم حول جانب من الحقيقة ولا تقترب من جوهرها أبدا.
إنّ التفوق -بحسب ما أرى- هو توافق نسوي غير معلن يسري بينهنّ من دون اتفاق في فضاء استراري غائر في البنية المجتمعية حتى يصل إلى أعماق المرأة ويدفعها إلى هذا المضمار -مضمار الانجاز والتميز- الذي تنجح به دائما محرزة قصب السبق وهي تدخل في تنافس مع ذاتها ومع (الآخر) المفترض. فالمرأة طوال عهود سحيقة صارت لها ذاكرة جمعية خاصة بها مثقلة بالمحفّزات والمثبّطات والحوادث والأسماء ولكنها تعرف جيدا كيف توظف هذه الذاكرة في اللحظة الحاسمة دائما وتسترجع بطريقة انتقائية ما تريده لتكون على خطّ الشروع متهيأة للصراع المقبل.
ولعل اسم ماري سكوودوفسكا كوري (1867 - 1934) من أهم المحفّزات في هذه الذاكرة، فهذه المرأة هي الوحيدة التي اخذت نوبل في مجالين مختلفين (الفيزياء والكيمياء) وكانت أول امرأة تصل إلى مرتبة الاستاذية في جامعات باريس وعاشت حياتها تصارع من أجل العلم في تخصّص معقد ونادر في حينها (الاشعاعات).ومثلها المعمارية الفذة زها حديد (1950 - 2016) التي تركت في أنحاء مختلفة من العالم بصمات من فكرها الحداثي في مجال العمارة.
وتتبع ما في هذه الذاكرة يحتاج كثيرا من الوقت لما فيها من علامات وإضاءات دالة لاتعد ولا تحصى، ولكن يكفي أن نقول إن المرأة كائن متحدٍّ بطبيعته، وتمتلك من المؤهلات ما يجعلها فاعلة جدا في ما لو أعطيت الفرصة التي تستحقها.