الدكتور علي الوردي وفرضياته عن الشخصيَّة العراقية

آراء 2021/09/11
...

 د. عبد الواحد مشعل
مثل الصراع بين البداوة والحضارة في المجتمع العراقي خلال التاريخ ظاهرة ملفتة للنظر، حيث كانت المدينة فيه تتعرض الى تهديد قبلي، وقد كان ذلك واضحا في حقب ما قبل التاريخ حينما عمد كثير من الملوك الآشوريين والبابليين الى تنظيم حملات ضد البدو في فترات مختلفة، كما استمر هذا الصراع بعد الميلاد الى تاريخ العراق الحديث، وقد ذكر أستاذ علم الاجتماع الدكتور معن خليل عمر في كتابه«رواد علم الاجتماع في العراق» الى أن عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي قد وضع فرضيتين لتفسير الظاهرة الأولى كانت عام 1965 والثانية عام 1974، فكانت الفرضية الأولى تقوم على أن العراق مهد الحضارات الأولى في التاريخ البشري، قد أنتج تراثا مدنيا ترك بصماته على الشخصية الحضرية العراقية خلال التاريخ، وفي الوقت نفسه يقع على حافة الصحراء مما شكل ذلك باستمرار تحديا لثقافة المدينة
حتى أن الثقافة البدوية باتت تفرض إرادتها على حواضر العراق مرات ومرات، ما ترك ذلك آثارا عميقة في الثقافة والشخصية العراقية وما اتسمت به هذه الشخصية من ازدواجية اجتماعية لوقوعها بين نمطين متعاكسين من الثقافة، وقد رأى الوردي في دراسة في طبيعة المجتمع العراقي أن للعامل الجغرافي دورا حاسما في تحليل الواقع الاجتماعي، حيث وضع يده على عناصر التناقض في الشخصية العراقية، مستدلا على ذلك من خلال الصراع بين البدو والمدينة، حتى باتت المدينة لا تطمأن لفترة طويلة على ثقافتها وهناك ثقافة غزو واقفة لها بالمرصاد. ورغم ذلك لم يستطع ابن المدينة أن يكون بدويا كابن الصحراء بحكم خصائص بيئته، التي عملت خلال التاريخ على رسم شخصيته،  لاسيما في ما يتصل بالفردية والاتقان المهني. أما الفرضية الثانية فتقوم على أن المجتمع العراقي خلال العهدين المغولي والعثماني، عاش حالة من الفوضى والاضطراب والنزاعات والسلب والنهب بسبب غياب القانون انشغال السلطات آنذاك بجمع الضرائب لجأ أهل المدينة الى وسائل تقيهم شر الفوضى. وقد كان أبرزها قيم البداوة ومحاولة كهذه كانت ترمي الى إيجاد منظومة قيم جديدة ذات امتدادات عشائرية. هذه المرة داخل المدينة نفسها التي انقسمت الى حارات شعبية لها قياداتها المحلية وقيمها المجتمعية وعصبيتها وشخصيتها الاجتماعية، وهي بمثابة وحدة دفاعية ووقائية تجاه أي اعتداء، وهي كنظام ثقافي بديل لقيم المدينة حينما غاب القانون فيها، وهكذا نشطت ثقافة الحارات الشعبية لتماثل عصبية القبائل، لكنها بثوب جديد حتى إذا ما قدمت حضارة الغرب المادية يد الانكليز نشب صراع بين تلك الثقافة التقليدية والحضارة الجديدة بتقنياتها المتطورة والتي تريد ترسيخ قيم جديدة، وفقا للوردي أن هذا الصراع قد اتخذ شكلا جديدا بين المدينة بحاراتها وثقافاتها الشعبية التقليدية وبين الثقافة القادمة من خارج الحدود. إلا أن تحول هذا الصراع بهذه الكيفية لم يمنع من وجود نوع من الصراع بين المدينة والريف في المجتمع العراقي وحتى العصر الحديث وقد ظهر تأثير القيم الريفية واضحا في الحياة الاجتماعية ابان العهد العثماني وما تلاه، حيث بين الوردي استنادا الى إحصائيات أوردها الدكتور محمد سلمان حسن في كتابه المقدم الى معهد الإحصاء في جامعة أكسفورد الى أن نسبة القبائل بلغت فيه 76 % من مجموع السكان أي ثلاثة أرباع سكان البلاد تقريبا، حيث بلغت نسبة القبائل البدوية 35 % من مجموع السكان ونسبة القبائل الريفية 41 % في حين كانت نسبة سكان المدينة 24 % من مجموع السكان، وهذا يدل دلالة واضحة على ما كان المجتمع العراقي عليه من مد بدوي وجزر حضري، كما تشير بعض البيانات المتوفرة الى أن حتى عام 1947 كان هناك شخص واحد من الحضر يقابله 3 أشخاص من الريف، إلا انه بعد التحولات الثقافية في المجتمع العراقي بعد النصف الثاني من القرن العشرين قد تقلصت تلك الفجوة، إذ أشارت إحصائيات التعداد العام للسكان لعام 1987 الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط العراقية الى أن هناك ثلاثة أشخاص من الريف يقابلهم سبعة أشخاص من الحضر.
 - القبيلة ودلالاتها الجديدة
يبدو أن هناك حالة أو قانون اجتماعي يظهر خلال التاريخ وهي إذا ما فقد المجتمع السلطة والقانون لجأ الناس فيه الى مرجعياتهم الاجتماعية من اجل من حماية أنفسهم وأموالهم وقد حدث هذا بعد سنة 2003 حينما تفككت الدولة وغاب القانون وإذا كانت سياسة المرحلة الماضية قد أيقظت النظم العشائرية التي الغي قانونها عام 1959 والذي قلل الاهتمام بالعشائر تدريجيا في الحقب التالية نتيجة قوة الدولة والقانون قد أعيد العمل به آبان حقبة التسعينيات حينما ضعفت الدولة حتى ظهرت حالات جديدة من التنظيمات العشائرية التي قامت على سنن مستحدثة في بعض جوانبها بعيدا عن سننها التقليدية مما أتاح الفرصة لكثير من المتمنطقين الجدد كي يتمنطقوا بتلك السنن بعيدا عن مدلولاتها الاصيلة حتى اذا ما اشتدت وطأة الاحداث وظهرت قسوة الحصار الاقتصادي وانشغل الناس بمعاشهم حتى ازدادت حدة هذا التمنطق مما اظهر دلالات جديدة لهذه العشائر على غير ما كان عليه إسلافهم وهذا قد ساعد على تفتت النظام القرابي ونقل الإنسان من الاهتمام بقيمه الجمعية الى الاهتمام بفرديته بعدما أخفقت القليلة في كثير من الأحيان على تلبية حاجاته بصفته عضوا فيها، أي تفتت القيم الجمعية لتظهر داخل العشيرة نفسها اتجاهات جديدة ذات صيغة فردية إلا أن هذا ليس مطلقا فلا يزال الفرد يتلقى مساعدات واحتضانا في الملمات الكبرى التي تلم به إلا أنها لم تأخذ طابعا استمراريا كما كانت عليه في زمن القبيلة التقليدية.