قراءات متقاطعة

آراء 2021/09/12
...

 د.محمد فتحي عبد العال
 
في إحدى المرات وقع بين يدي كتاب «على السفود» لمصطفى صادق الرافعي صاحب الدرر الأدبية: «تاريخ آداب العرب» و«تحت راية القرآن» و«وحي القلم» و«المساكين» ووواضع السلام الوطني المصري « أسلمي يا مصر» وكذلك النشيد الوطني التونسي «حماة الحمى». 
بالطبع لهذه الكتب الثقافية القديمة طقوس، فالقهوة خلقت لمثل هذه القراءات فبدأت بصنع فنجاني من القهوة الثقيلة والخالية من السكر وبدأت أطالع «على السفود» وكلي حماس أني سأنهل من علم النقد عند الرافعي مالم أنهله في علم الرواية لدى العقاد!.
وكانت المفاجأة قاموس من الشتائم المنتقاة بعناية يكيلها الرافعي للعقاد، فالعقاد بحسب الرافعي «الجلف الحقود المغرور» و«لص من أخبث لصوص الأدب يدعي ملكية ما يسرقه» وفي موضع آخر «لص يريد أن يكون من أرباب الأملاك» وأنه استفاد من عمله بجريدة البلاغ التي فصلته فهي لمنزلتها الكبيرة «تصبغ شيبه وتخفي عيبه وتجعله نايبه» ويعلل معايير الجريدة التي جعلتها تختار العقاد فهو «سفيه أحمق» و»لم يروا أكفأ من العقاد وقاحة وجه وبذاءة لسان وموت ضمير وحمقا أكبر من الحمق الإنساني ولؤم نفس بقدر مجموع كل ذلك «كما ينقل مقتطفات من أسلوب العقاد في كتاباته على الجريدة فهو يصف الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير السياسة «كتب الواد المسطول» ويخاطب خليل بك ثابت رئيس تحرير المقطم بقوله «اقتصادية ماذا يا مغفل؟».
ومن العقاد الصحفي إلى العقاد الأديب يتحدث الرافعي «أسلوبه الأدبي أحمق مثله فهو مضطرب مختل لا بلاغة فيه وليست له قيمة» ولا ينسى الرافعي أن يتطرق إلى شعر العقاد واصفا إياه بالشاعر «المراحيضي».
نعم كما قرأت عزيزي القارئ وشعر العقاد ليس بأحسن حظا من أدبه فـ«بعض أبياته حسنة لا بأس به» و«ألوف من الأبيات السخيفة المخزية لا قيمة لها».
وكأن حظي أنا والعقاد في محافل الاختلاف واحد فمخالفينا في الرأي لابد وأن ينزلوا بنا إلى المعترك الحيواني دفعا!.
فيصف الرافعي غريمه العقاد بقوله «وفي الوجود مثل العقاد حشرات وحيوانات سلحتها الطبيعة في ميدان التنازع بأسلحة بعضها وقاحة في أمعائها كالظربان وهو دويبة فوق جرو الكلب منتنة الريح كثيرة الف.....» كم كان الرافعي كريما مع جمهوره من القراء حينما أطلق الفاء وترك الحروف اللاحقة عليها 
لتخمينهم!.
الحقيقة أني اعتذر من القارئ على هذا المستوى المتدني من الخطاب والذي نقلته حرفيا واخترت منه ما كان صالحا للنشر، وهو يخرج تماما عن إطار النقد الأدبي العلمي إلى كونه خناقه على مقهى بلدي بحي شعبي ومن يود استكمال باقي هذا القاموس من الشتائم أحيله للكتاب المتاح كاملا على موقع مؤسسة 
هنداوي.
ولكن يبقى السؤال ما الذي ألهب الصراع بين الأديبين العملاقين؟! السبب بسيط الصراع على القرب من سعد زغلول باشا.
ربما لا يعرف الكثيرون من صورة سعد زغلول سوى نبرته الليبرالية وبذلته الافرنجية وطربوش الباشا الارستقراطي، لكن كان خلف هذا وجها آخر لسعد طواه الزمن ألا وهو خلفيته الأزهرية وجبته وقفطانه القابعين في وجدانه وأن الزعيم في صدر شبابه قد ألف كتابا في الفقه الشافعي وذلك بحسب ما قصه الشيخ محمد مصطفى المراغي على احمد لطفي السيد.
لذلك لا تستغرب عزيزي القارئ من احتفاء سعد بكتاب مصطفى صادق الرافعي «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية» وتقريظه له بأنه «بيان كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم» كما نال الكتاب رعاية الملك فؤاد الذي أمر بطباعته طبعة ملكية على نفقته الخاصة وذلك عام 1928 .
وتشاء الأقدار أن يلتقى الرافعي بالعقاد في مجلة المقتطف عام 1929، فيسأله عن رأيه في الكتاب فيثور العقاد ويسفه الكتاب ويتهم الرافعي بتزوير تقريظ سعد .
حتما ستساورك عزيزي القارئ الدهشة لماذا ثار العقاد وهل تعمد الرافعي إغاظته؟!.
لقد شاءت الأقدار أن تكون ظروف الرجلين واحدة، فكلاهما لم يكمل تعليمه وتوقف بهما التعليم عند المرحلة الابتدائية وكلاهما حاول تعويض هذا النقص بالانكباب على الكتابة الموسوعية أي الكتابة في كل شيء وأي شيء! لكن الشهرة لن تأتي وحدها من الكتابة الأدبية، فالميدان خصب وحافل ومليء بالرموز من كل حدب وصوب، لذا فصناعة المتابعين والقراء أو ما نسميه في عالم اليوم followers لن تأتى إلا بالمعضدات السياسية والانخراط في الحياة الحزبية أوالالتفاف حول أحد المعسكرين إما حزب الوفد والذي خرج من رحم ثورة 1919 والولاء لزعيمه سعد.
وإما الالتفاف حول صاحب السلطة الشرعية في البلاد الملك فؤاد والطموح من يسعى بين هذا وذاك.
كان العقاد هو قلم زعيم الوفد ولسانه الأمين وأقرب أتباعه وكان يحارب في ضراوة كل من يقترب من هذه المكانة، أو يشتم منه مجرد الرغبة في حجبها عنه.
فكان تقريظ سعد للرافعي مخيفا للعقاد في أي ينال الرافعي الحظوة لدي سعد ويطيح بمكانته وكانت تطلعات وطموحات الرافعي ليست بخافية على الوسط الأدبي مع سعيه أن يكون شاعر القصر كبديل لعبد الله عفيفي المقرب من ناظر الخاصة الملكية زكي الإبراشي باشا، لكنه كان متعجلا في مسعاه ما أفقده الروية والحنكة، فراح يتهم عفيفي بالغفلة وقلة المعرفة والذوق الفاسد في ثلاث مقالات غلب عليها النكات اللاذعة والأمثال الشعبية للحط من قدر الرجل، متناسيا أنه لا يسيء بذلك لشاعر القصر، بل يسيء لسيد القصر الملك فؤاد الوارد اسمه في هذه الأشعار، ما جعل القصر يميل لكفة عفيفي.
اتخذ الرافعي في هجومه ضد خصومه عنوانا واحدا هو «على السفود»، وكانت مقالاته من دون اسمه وتوقيعه والسفود هو الحديدة أو السيخ، الذي يشوى عليه اللحم وكانت المقالات تنشر بمجلة العصور لصاحبها إسماعيل مظهر، والذي وجد ضالته في اجتذاب جمهور لجريدته بأسياخ السفود الرافعية المسلطة على خصومه.
كم كان الرافعي موفقا حينما قال في رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي في صحيفة المقتطف عام 1932 «الطبيعة المصرية لا تساعد على إنضاج المواهب الشعرية ولا تعين على إبراز الشاعرية الكامنة في كل نفس» وهو أمر أضيف عليه من واقعنا أن البيئة المصرية المخضبة بالإيثار النفسي والذاتي والكراهية والتصارع والعزلة عن الواقع، هي بكل تأكيد طاردة لكل المواهب وليست الشعرية 
فقط .
إن هذه المشاهد بين الماضي والحاضر تنقلنا بجلاء لحقيقة مهمة أننا لا نملك الحد الأدنى من القدرة على الاختلاف بشرف وتعال عن الصغائر واحتكام للحكمة، بعيدا عن الابتذال والسوقية، ولا بد من أن نعترف أن هذه أحد أمراضنا المنتشرة قديما وحديثا، وحينما نقترب من واقعنا ندرك أن أصل الداء يكمن أننا معشر المصريين لا نعرف العمل الجماعي الناجح، ولا نفهم ماهية الشحذ الذهني وتبادل الآراء والرؤى المختلفة واحترامها، ثم انتخاب القرار الأصوب والنزول على رأي الأغلبية والعمل معا.
كل منا يعبد ذاته وينظر من زاويته وينطلق من فلسفته وأنها الصائبة بشكل مطلق والباقي أغبياء وحمقى!.
 
* كاتب وباحث وروائي مصري