الامتثال لشروط الحياة العمليَّة عند فروست

ثقافة 2021/09/12
...

  محمد تركي النصّار
 
 كتب روبرت فروست الذي نشأ في سان فرنسيسكو ونيوهامبشير قصيدة (وقفة قرب الغابة في مساء مثلج) عام 1922، فضلا عن العديد من القصائد عن العمر والزمن، دافعا بالقارئ في خضم كثيف من الصور، وهذه احدى تلك القصائد التي تستبطن الحوافز المؤثرة على مزاج الراوي وحبه للغابات.
يعرف فروست بأنه شاعر محلي متمكن من تقديم مقترحات شعرية شخصية ومختلفة لا علاقة لها بالاتجاهات الشعرية لعصره.
تروي (وقفة قرب الغابة في مساء مثلج) قصة رجل يتوقف في الغابة محتارا بين خيارين، اذ يترجل من حصانه لوقت قصير في مساء مثلج ذاهلا من سحر المشهد الطبيعي الذي يتبدى أمامه وهو يعيش لحظات استمتاع لإشباع رغبته وأخذ جرعة من مشاهد جمال طبيعي فاتن:
 
أظن انني أعرف مالك هذه الغابة
 لكن بيته في القرية وسوف لا يراني
واقفا هنا لأراقب انهمار الثلوج
ربما يفكر حصاني النحيل بأنه أمر غريب
أن نتوقف هنا حيث لا بيت ولا مزرعة قريبة
 
ويسيطر عليه خياران: أما البقاء في الغابة أو مواصلة مسيرته والعودة للبيت، تبدأ القصيدة بجذب القارئ واثارة انتباهه لتغدو لعبة ذكية بالكلمات في مستويات متعددة من المعاني، ويمتلك فروست ولعا متأصلا في شخصيته وهو الاختيار بين طريقين، وهذا يذكرنا بنص آخر له وهو قصيدة (الطريق التي لم تسلك)، إذ يصل الراوي أيضا الى مفترق طرق ويقرر أن يختار طريقه الدائم:
 
بين الغابة والبحيرة المتجمدة
هذا هو المساء الأكثر عتمة في السنة
يحرك حصاني أجراسه محدثا رنينا
 للتنبيه متسائلا ما إذا كان ثمة خطأ
حيث لا صوت آخر سوى صوت الريح الخفيفة
وهي تكنس ندف الثلج الناعمة.
الغابة جميلة؛ معتمة؛ وشاسعة
لكن عليَّ التزامات لا بدَّ أن أفي بها
وهناك أميال لا بدَّ من أن أقطعها قبل أن أنام.
 
المعنى الجوهري للقصيدة يكمن في الصراع بين البقاء في الغابة بكل ما ترمز اليه من عزلة وصفاء وتحرر من الأعباء الحياتية أو العودة الى زخم الحياة والمسؤوليات وتحمل ضغوط ومتاعب العيش. 
يبدو الراوي في بداية النص وهو يواجه اضطرابا في الاختيار ويعاني من إحساس بالتعب من التزامات الحياة، فيعطي نفسه لحظات للاسترخاء يشجع عليها حب فروست وفتنته العميقة بعالم الطبيعة وسحر هذا المساء الثلجي الذي جذبه.
الغابة بالنسبة للمتكلم في القصيدة، كثيفة الظل، مظلمة وشاخصة بكل فتنتها تحفز الشاعر على رسم صورة مشهد جمال طبيعي تبقى ماكثة في الذاكرة، خالقة حركة حسية جذابة للقارئ، ويعتقد العديد من النقاد والقراء بأن المتحدث هنا هو فروست نفسه بسبب علاقته الخاصة بالطبيعة وتكريسه معظم قصائده للتعبير عن جمالها وطاقة معانيها الزاخرة بإمكانات
التأويل.  
وقد مر فروست بموقف صعب بقي يعيش صراعا بسببه ينعكس بشكل ما في هذا النص البسيط المليء بالحنين للهدوء والسلام، ويبدو بطل القصيدة مسافرا، رجل أو امرأة، وربما يكون بائعا متجولا يتنقل بين القرى والأماكن، إذ يعاني من ثقل الأعباء والمسؤوليات فتنتابه الرغبة للهروب من كل هذا الضغط النفسي، لكنه يمتلك وعيا كافيا يساعده على الامتثال لشروط المجتمع وقواعده فيحسم أمره لصالح قرار العودة للمنزل في ما يشبه الاذعان لقوانين الحياة التي قد يكلف التمرد عليها أثمانا باهظة. 
 الغابة هي الرمز المهيمن في القصيدة وهي تمثل أحد خيارين امام المتحدث في النص، فأما التوغل عميقا في الغابة أو العودة للحياة الواقعية، فالغابة تمثل حرية من نمط ما حيث لا قيود مجتمعية وبلا هذه الوظائف اللانهائية، فإن الحياة تتطلب شخصا متوسط القدرات، فهنا عالم الطبيعة الذي يتيح إمكانية العيش بهدوء وسلام، لكن يجب ملاحظة أن الغابة مظلمة وشاسعة فهي تمثل الظلام وتوفر خيار النوم الذي يرمز
للموت. 
تتميز هذه القصيدة بأن لها رنينا خاصا عندما يتم انشادها بصوت عالٍ فهي غنية صوتيا، حيث الرنين والايقاع والمنطق تتدفق بشكل منتظم خلال القصيدة وهي مكتوبة بطريقة الرباعيات الكلاسيكية، والرباعية مصطلح فارسي معروف استخدمه عمر الخيام في رباعياته، فضلا عن اخرين يقابله مصطلح (quatrain) الذي استخدمه كثير من الشعراء منهم إليوت في رباعياته
الأربع.