الواقعيَّة الثقافيَّة.. الواقعيَّة السياسيَّة

ثقافة 2021/09/13
...

علي حسن الفواز
الواقعية في الثقافة لا تشبه الواقعية في السياسة، فكلا الأمرين يختلفان في القراءة، وفي الحساسية، وفي التعاطي مع الاشياء والمصالح والمواقف، وعلى وفق ما تحدده طبيعة تلك الواقعية، فما يحدث في الثقافة يحتاج الى آلية لنقل الافكار والصور والاحداث بما يحافظ على جوهرها، وبما يعطي نوعا من «الفوتوغرافية» للقارئ او المشاهد، تحت يافطة الحفاظ على الامانة وعلى الدقة والموضوعية في النقل وفي الكتابة. لكن في السياسة نجد الأمر معكوسا تماما، لأن الواقعية تعني المراوغة ومراعاة المصالح، وصولا الى اتخاذ مواقف، قد تشوبها الانتهازية او البرغماتية، وتحت يافطة الحفاظ على الصالح العام، أو الحرص على التوافق بين الفرقاء المختلفين بالتوجهات والنوايا والاهداف، وبشكل يجعل من فكرة هذه الواقعية عرضة للخرق ايضا، ولاعادة الحسابات وحسبما تقتضي الحاجة الى ذلك، حتى لو كان الأمر على حساب الحق.
هذه القراءة تكشف عن مدى ضعف النظر الى مفهوم الواقعية، والى سوء استعمالها، والى طبيعة تأثيرها في تحديد التوجهات العامة، لا سيما في السياسة، لأن الواقعية في الثقافة تملك رصيدا جيدا، عبر اسماء مهمة، وعبر وعي علاقتها بالاجتماع، وبالايديولوجيا، وبالنضال السياسي والاجتماعي والنقابي، فضلا عن تعاطيها مع الصراعات السياسية التي يعيشها المجتمع، إذ يعكس أثرها التاريخي خطابا نقديا او ثوريا، على مستوى الدراسات والبحوث، أو على مستوى كتابة الرواية  وهو ماتحول الى ظاهرة عالمية معروفة بدءا من الواقعيين الطبيعيين امثال اميل زولا وموباسّان وفلوبير ودوديه ، مرورا بالواقعيين النقديين امثال دستوفسكي وبلزاك وتشيخوف، وانتهاء بالواقعيين الاشتراكيين الذين يمثلهم الادب الروسي بشكل استثنائي، كما عند مكسيم غوركي وليرمنتوف وشولوخوف وستروفسكي وغيرهم.  الواقعية الثقافية لها وجود كبير في أدبنا العراقي، ولها كتّاب وباحثون ونقاد، لاسيما عند قصاصي الخمسينات- عبد الملك نوري، فؤاد التكرلي، مهدي عيسى الصقر، غائب طعمة فرمان، علي جواد الطاهر، فاضل ثامر وغيرهم لكن وجود الواقعية السياسية في القضاء الثقافي كان ضعيفاً ومحدوداً، وربما هو مكروه ومن الصعب قبوله، لأنه يتقاطع مع طبيعة الادلجات الكبرى القومية واليسارية والثورية التي سادت في مجتمعنا، والتي يغلب عليها الطابع الراديكالي، والموقف الحاد ازاء الكثير من الاحداث والوقائع والافكار، إذ سنجد الواقعية السياسية هي ممارسة في الهيمنة، مثلما هي الوجه الاخر للانتهازية، وللضعف في الانحياز والتوجهات التي تفرضها السلطة، أو كما تروج لذلك المرجعيات التي تجعل من الخطاب السياسي هو العلامة الواقعية الوحيدة التي يمكن تداولها، وفرضها والقبول بمعطياتها.