التداخل المعرفي بين الثقافة والحضارة.. فهل تسبق الحضارة الثقافة؟

ثقافة 2021/09/13
...

 د. أحمد شرجي
 
ميّز ألفريد فيبر A. Weber بين الحضارة والثقافة، فالأولى هي جملة المعارف النظرية والتطبيقية غير الشخصية التي تنتقل من جيل إلى جيل. أما الثانية فهي جملة العناصر الروحية والمشاعر والمثل المشتركة التي ترتبط في خصوصيتها بمجموعة وزمن معينين. 
ويرى ألفريد فيبر أن الحضارة هي المجهود الإنساني للسيطرة على الطبيعة، بينما الثقافة هي مظاهر الحياة الروحية والأخلاقية التي تسود المجتمع، بمعنى آخر: إن الثقافة تعبر عن الجانب الروحي للمجتمع، في حين تكشف الحضارة عن المظهر التكنولوجي والمادي. كما ميز بين مفهومي الحضارة والمدنية من خلال إقامة الفروق بين: المدنية Civilisation، والمجتمع Social، والحضارة Civilization. ويعني بالمدنية: التطور المعرفي وكيفية إيجاد سبل السيطرة الفنية على قوة الطبيعة، والتقدم الذي يخضع لنظام معين وينتقل من مجتمع إلى آخر. أما المجتمع: فهو شعب يتمركز في مكان ما، وتشكل الثقافة طرائقه في الحياة. 
أما الحضارة: فلا يمكن فهمها إلا إذا دُرست دراسة تاريخية، توضح تطور أجزائها ومعرفة العلاقة الترابطية لتلك الأجزاء. بناء عليه، فإن التمايز بين الثقافة والحضارة، قوامه المعيار الآتي: “كل ما يتعلق بالأصل ويسهم في الإغناء الفكري والروحي هو في مجال الثقافة، وعلى النقيض من ذلك، كل ما لا يعدو مظهرا براقاً ورهافة وتهذيباً سطحياً هو في مجال الحضارة”.
تختلف الثقافة عن الحضارة، فلكل مجتمع ثقافته الخاصة. فهي نتاج الفكر المجتمعي، والسياسي، والاقتصادي، والديني، والسلوكي. أما الحضارة فهي النواحي العلمية والمادية لثقافة الأقوام المتحضرة. وما يميز الثقافة أيضا، هو أنها تراكمية ومكتسبة وتنتقل من جيل إلى جيل. 
أما الحضارة فهي إنتاج مستقل، قد يمتاز بها مجتمع ما في مرحلة تاريخية، لكنها لا تنتقل من مجتمع إلى آخر، بمعنى أنها تظل داخل المجتمع الذي أنتجت فيه. ولذلك يجب أخذ “الوضعية العلائقية التي تُبنى فيها كل ثقافة بعين الاعتبار. ويجب أن لا تؤدي إلى إهمال الاهتمام بمحتوى هذه الثقافة وبما تعنيه في ذاتها”.
لم يعر علماء الأنثروبولوجيا اهتماما لهذا التمييز القائم بين الثقافة والحضارة، بل بدا لهم تمييزا وهميا وموصوفا بثنائية غامضة، تنبثق من المعارضة بين الروح والمادة، والإحساس والعقلية، والأفكار والأشياء. 
إن الغالبية العظمى من علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع يتجنبون استعمال مصطلحي الحضارة والثقافة بالمعنى نفسه، وإن كان بعضهم مثل تايلر قد جمع بينهما. بل يمكن أن تحل إحداهما بدل الأخرى، كما هو الحال بالنسبة للمفكر والانثروبولوجي الفرنسي ليفي ستراوس Claude Lévi-Strauss  والذي يعد أحد أشهر الأنثروبولوجين إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق لما له من تأثير تعدى مجال الأنثروبولوجيا إلى علم الاجتماع والفلسفة واللسانيات. كان فكره هو المسيطر على المشهد الفكري الفرنسي منذ بداية الخمسينات وحتى نهاية السبعينات في القرن الماضي، وامتد تأثيره ليشمل فلاسفة كبار من أمثال: ميشيل فوكو، وجاك دريدا، ورلان بارت، وسيمون دي بوفوار. ويعد تأثيره الكبير هذا إلى كونه المؤسس الفعلي للحركة البنيوية في العالم الغربي، فهو أول من طبق اللسانيات في العلوم الاجتماعية رغبة منه في دراسة ظواهر المجتمع دراسة علمية. من مؤلفاته: البنيات الأولى للقرابة، ومدارات حزينة، والأنثروبولوجيا البنيوية، الذي اقتفى خطوات تايلر، إذ رغم إعطائه أحيانا للمصطلحين معاني مختلفة، إلا أنه كان يستعمل التعريف نفسه للثقافة والحضارة. 
بينما الحضارة عند إيميل دور كايم Emile Durkheim، لاتتطابق مع الإنسانية وصيرورتها، كما أنها لا تنطبق على أمة محددة، فكل ما يمكن ملاحظته وإنتاجه هو حضارات. فالحضارة هي “الظاهرة الاجتماعية غير المرتبطة بجسم اجتماعي معين، فهي تمتد على مجالات تتجاوز التراب القومي، وتنمو على امتداد حقب من الزمن تتجاوز تاريخ مجتمع واحد”. ويؤكد دوركايم أن المجتمع وليس الفرد، هو ما يتضمن تلك الرؤية، لأن المجتمع عنده كلٌّ عضويٌّ، أما الحضارات فهي أنساق معقدة ومتضامنة، ولهذا نجده يمنح للمجتمع الأولوية على الفرد، وهو ما وسمه بالوعي الجمعي، الذي يمثل شكلا من النظرية الثقافية. 
وتعد الحضارة بالنسبة للفيلسوف والمؤرخ الالماني أوزولد آرنولد غوتفريد شبينغلر Oswald Arnold Gottfried Spengler المصير المحتوم للثقافة.. وهي أكثر الحالات الظاهرية والاصطناعية التي تكون أجناسا من البشرية المتطورة قادرة عليها، إنها عصارة الشيء في حالة الكينونة يتبعه الشيء في حالة الصيرورة”. ومن هنا، فإن الحضارات كليات ثقافية ذات معنى، وتعمل الشعوب على إعادة تجديد ثقافتها التي تتفاعل وتتداخل مع ثقافات أخرى. وما ينتج هذا التفاعل هو الوعي الجمعي Collective Consciousness الذي يتشكل من المظاهر الاجتماعية، ومجموعة القيم، والمثل، والمشاعر المشتركة. فالوعي الجمعي يسبق الفرد ويفرض عليه الانصهار بالجماعة. ويتقاطع الوعي الجمعي بالوعي الفردي، فالأول أعلى من الثاني، لأنه أكثر تعقيدا وغير محدد. إن الوعي الجمعي عند دوركايم، هو الذي يحقق وحدة المجتمع وتماسكه، من خلال المظاهر الاجتماعية المشتركة، التي تفرض على الفرد الانصهار بالجماعة. وهو ما يتعارض مع الانكليزي تايلر الذي أكد أولية الفرد داخل المجتمع.