تمظهرات الحداثة السائلة الخفيَّة وغزوها لمجتمعنا

آراء 2021/09/15
...

  د.سلامة الصالحي 
يعد مصطلح الحداثة السائلة غريبا على مسامع الناس، الذي ابتكره الكاتب الانكليزي من اصول بولندية ريجموند باون، وبعد ان كانت الحداثة ومابعدالحداثة قد اخترقت مجتمعنا بتمظهرات بسيطة، لم تتعد سوى بناء الدولة وتأسيسها ومن ثم دخول الافكار العلمية والمعرفية وموجة الحداثة في ريادة الفن والادب، التي ظهرت بذورها في العراق أواخر ومطلع الاربعينيات والخمسينيات على التوالي. 
بعد ان تم ابتعاث نخب وكوكبة من موهوبين ومتطلعين للمعرفة والجمال الى دول الغرب، والذين كان لهم الفضل الكبير في تأسيس وحراسة النهضة العراقية الحديثة التي ارتقت بالذوق النخبوي والشأن الثقافي في مجال الشعر والرواية والقصة والفن التشكيلي، من نحت ورسم في مكان كل ما يحيطه كان يرزح تحت ظل البداوة والتخلف، ومن ثم بدأت هذه الكوكبة التي رافقها نهوض اجتماعي كبير في مجال الدخول للجامعات وتطور التعليم الرصين، من دون أن ننسى التأثيرات السياسية والايديولوجية التي جاءت ايضا من الخارج، فلم يكن هناك فكر حداثوي نبع من الداخل وفق الظروف والتعقيدات، التي يعيشها المجتمع سواء كانت فكرا قوميا او يساريا او ليبراليا او حتى دينيا، في مجتمع يرزح تحت قرون من الجهل والتخلف والتبعية، ومهما كانت النظريات والايديولوحيات القادمة من الخارج عظيمة في مضمونها الانساني والفكري، فإنها لن تنجح النجاح المطلوب إن لم تكن قد نمت وتضجت في مجتمع يتقبلها وهو يذيب الافكار الصلبة التي تمترست في عقله الجمعي وصارت من ضمن مقومات حياته، وأعني بها الموروثات الاجتماعية والدينية، اذ إن هذا الجانب الخطير أحيانا يقف خلف مظاهر عديدة تتمثل بالعنف أحيانا كثيرة وعدم تقبل الاخر، وربما يعود ذلك بعدم وجود ما ينبع من نظرية حداثوية تخص مجتمعنا هو قوة هذه الموروثات وهيمنتها التي تتمثل كسلطة خفية تحكم الجميع، قبليا ودينيا أدى الى ضعف وهشاشة المدنية الحقيقية وانهيارها، وحتى هجرتها، بعد ثورة الاتصالات الكبرى، التي جعلت من الحياة البشرية مكشوفة بكل تفاصيلها، فأن تغيرات وطفرة أحيانا تبدو سلبية ومريبة وغير متوازنة حدثت في مجتمعنا، قد تكون خلفها أهدافا خفية لانعرف حتى الان ما جدواها او الى أين تريد أن تصل، ويبدو أننا كمجتمع شرقي نهض لعقدين أو أكثر في مجال العلم والمعرفة والممارسات الاجتماعية الحديثة، قبل أن تداهمه الحروب اللعينة التي ايضا خطط لها، قد خضع لهذه الصدمة الحضارية من دون أن يمر بمراحل حقيقية للحداثة وما بعدها مجتازا هذه المراحل وطافرا بكل استهجان الى مرحلة الحداثة السائلة رغم قوة وهيمنة الموروثات التي ترافق الان ظهورها وأعني الموروثات القبلية والدينية، التي شملت التدين الشعبي ومظاهره الفاقعة، ونحن كجيل نشأ وواجه القمع والحروب والحصارات الجائرة، نقف نتساءل، عن هذا الواقع المسخ الذي نراه دون أن تستطيع اي قوة من الافكار او الموروثات ان تقف بوجهه، بعد أن استوعب الجيل الحالي مظاهر الحداثة السائلة في العالم واتخذ منها شكلا من اشكال حياته وممارساته الانسانية، وربما طبيعة مجتمعنا في ازدواجية الافكار بقيت لديه كامنة، فهو يظهر بشكل ويكمن بشكل آخر، فبدلا من ان تتوجه الناس الى العمل والبناء والمعرفة، بدأت تطبق قيما غريبة على حياتها، وهي قيم الحداثة السائلة وفي ذات الوقت تحتفظ بأفكارها الصلبة التي لا يمكن أن تذيبها مئة سنة قادمة. 
اختفت مظاهر التنمية المجتمعية من حرف ومهن وعمل خاص أو تكاد تختفي، وصار هاجس الناس البحث عن وظيفة كل شأنها نوعا من البطالة المقنعة، التي أدت الى ترهل جهاز الدولة الاداري وغياب مؤلم لدور القطاع الخاص في التنمية وقوة الاقتصاد واستيعاب الايدي العاملة، الذي تقف خلفه أسباب كثيرة معروفة لدى الكثير منا وبعد ان اصبحت الوظائف امتيازات حزبية وغنيمة تخدم الانتخابات دون ان تكون هناك دراسة شاملة لطبيعة البلاد ومستوى الموارد البشرية المتطلعة للعمل والانتاج واحتياجاتها على المستوى العام، ويقف خلف ذلك الحاح وطبيعة الناس التي رات في الوظيفة الحكومية ضمان مادي آمن، حتى وإن شرع البرلمان قانون العمل، الذي يصب في مصلحة العاملين ويضمن مستقبلهم، وبعد غزو البضاعة الرخيصة غير الخاضعة لشروط اقتصاد الدولة وحمايته من التخريب والذي ادى الى انحدار قيمة واهمية العمل. 
هذا من جانب الاقتصاد اما الجانب الاجتماعي، فاننا نعيش في مرحلة تاريخية من هذا التحول الذي يهدد الأسرة والمجتمع في الوقت ذاته ومستقبل الاجيال اللاحقة لما ينطوي عليه من هشاشة وفقدان الاسس والاهداف، التي ترافق التحولات الكبرى للمجتمعات.
 فصارت التباينات المادية داخل مجتمعنا من غنى فاحش يصل حد الاستفزاز الى فقر فاحش يصل حد البؤس والاستجداء، ادى الى فقدان قيمة ومعنى اشياء كثيرة. صار الانحدار القيمي في اوج تمظهراته السائلة، في مجتمع صار يتقبل الرشوة والمرتشي ويقدر اللص والفاسد ولا يقيم الحد عليه، وصار ت العلاقات الانسانية خاضعة لمنطق المنفعة والانانية واغترب الانسان وصار فردا وليس مواطنا محبا لارضه ووطنه، ومثقلا بقيم ومبادئ اساسية لحياة حرة كريمة، وبالبؤس البلاد التي صارت جيبا كبيرا للمال، تؤخذ منه ما تحتاج اليه وتفلت الى دول اكثر رفاهية وخدمات، تاركا بلاده دون ان يفكر بطريقة لانقاذها والحفاظ عليها وتطويرها، فصار حلم الهجرة يرافق الكبار والصغار وصارت البلاد جرة ذهب يأخذ الابناء منها ما حوزتهم، وتهرب العملة الصعبة مع الهارب لبلاد اخرى تعيش في ظل تنمية وبرامج اقتصادية رصينة وتزخر بالبناء والاعمار، تركيا على سبيل المثال، التي صارت وجهة ومسار اغلب الناس دون ان يكون له حصة في هذا المال من بناء واعمار وتطوير للحياة وحماية البلاد، وحتى الحب صار خاضعا لمنطق البيع والشراء، فلاغرابة أن نرى الزواجات السريعة الملتحقة بها الطلاقات السريعة، التي صارت ندرة حدوثها هي الكثرة وتقبل المجتمع لها كممارسة عادية دون ان يقف متسائلا عن جذور وبدايات حدوثها ليمنع. حدوثها وهي الزيجات المتسرعة، فلم تعد الناس تعتد بالعلاقات الحقيقية الدائمة، التي تؤسس لمجتمع متماسك وصحي، وتفقد المجتمعات قوتها حين تفقد ايمانها العميق وصدقها ونقاء علاقاتها، فصار الحب خاضعا لمنطق السيولة مثلما غزت السيولة الاقتصاد والبنى الاخلاقية، نحن نعيش بمرحلة خطيرة جدا ،.امام جيل متمرد وخائف ومجازف، الاتصالات وسهولة التواصل، ساعدت بنقل مجتمعنا من مجتمع رصين وقوي الى مجتمع يعيش بمنطق الحداثة السائلة التي لا يعرف من خلالها أن يرسم ويحدد اهدافه. مجتمع استهلاكي من الدرجة الاولى غير منتج، وغير حقيقي، تائه وليست هناك يد حقيقة تأخذه الى ساحل الامان والثقة، بعد ان خضع لحداثة سائلة من الخوف واللهاث المادي الذي يدمر اقوى وارصن المجتمعات، فمن كان يتصور ان مجتمعا ملتزما ومكتفيا مثل مجتمعنا تكون فيه المخدرات رائجة والدعارة والرشى والسرقات واستسهال القتل النفسي والجسدي عاديا جدا، فصار التنمر والاساءة لا يخضع لاي شروط اخلاقية. وتجملت اللصوصية بمظاهر زائفة اغوت الكثيرين وجعلتهم رموزا محلية ممسوخة، يحترمها المغفلون ويجعلون منها رموزا محترمة، نحن عبرنا بغيبوبة من مراحل الحداثة الحقيقية الى مظاهر حداثة سائلة مخيفة جدا على المدى القريب والبعيد.