الانتخابات المبكرة وثقافة التغيير

آراء 2021/09/17
...

 علي كريم خضير
 
لم تكن يوماً ولادة النظريات السياسية الحديثة من قبيل المصادفات التي يأتي بها الزمن جُزافاً، بل إنَّها ناتجٌ لمخاضٍ عسيرٍ شهدتهُ الشعوب في تاريخها، عبر مقارعة الطغاة والظلم في أرجاء المعمورة.  إذ شهدت أوروبا في القرون الوسطى ثقافة استبدادية لانظير لها على مرِّ العصور، أُستعبد فيها الإنسان، واضمحلت كرامته أمام السلطة بشقيها السياسي والديني. 
    ولا نغالي إذا قلنا إنَّ هذهِ الثقافة استمرت بمفهومها السابق حتى بعد عصر التنوير، فكان من شأنه أن حصلت حربينِ عالميتينِ لا يتعدى الفصل بينهما ثلاثين عاماً أبَّان القرن الماضي. بيد أنَّ الغرب عندما وجد نفسهُ غارقاً في خضمِّ الصراعات، إختطَّ لنفسهِ طريقاً آخر، تمثّل في المنهج العلمي الذي نقلهُ من حالٍ إلى حال. وأصبح بفعلِ هذا المنهج حاملاً لواء البشرية في الفتوحات الصناعية الكبرى. وبذلك تسيَّد على شعوب الأرض بفضل هذا التطور الكبير. الأمر الذي جعلهُ ينافح شعوب الشرق في محاولاتها بذات الطريق. والأمثلة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها الآن. وإذا كان هذا التطور الغربي قد نشأ في أجواء سياسية ناهضة، فذلك مؤشر الى الترابط الوثيق بين العامل السياسي والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الأخرى، من أجل تفعيل نهوض الأمّة من كبوتها.
     وممّا واجه الأمة  العربية في تاريخها المعاصر هو تسلط الحاكمية على رقابها، وفرض سياسية القوة، وتهميش الشعوب العربية، وتسفيه آرائها بشتى العناوين، كي ينفرد الحاكم في السلطة، ويستحوذ على مقدرات الأمة من دون أن يشعر بحاجة المواطن إلى أبسط العيش الكريم، والحياة الآمنة. لذا كانت مطالبات بعض الشعوب العربية تصبُّ في التحرر من هذا التسلط والعبودية الذي مُورس ضدَّها عقوداً من الزمن، وفقدت بسببه علائق الإنتماء بأوطانها، فأضحت مشرَّدةً في البلدان تبتغي عيشها، من أجل أن تتنفس هواء الحرية، بعيداً عن مخاضات الحروب، وإذلال الطغاة.  فأزاحت رياح التغيير عدداً من القادة العرب، وأُستبدِلت الأنظمة السياسية في بعضٍ منها، وفي مقدمة هذه البلدان كان العراق، إذ تحوّل فيه الحكم من النظام الرئاسي ذي الحزب الواحد إلى النظام البرلماني ذي الأحزاب المتعددة. غير أنَّ التجربة السياسية في العراق مرّت بإرهاصات وتعقيدات كثيرة، جعلت من العملية الديمقراطية غير مكتملة الصورة، بعد أن وقع أصحابها في تناقضات قومية، واثنية أجّجت من الصراع على السلطة. بل إنَّ الصراع إمتدَّ إلى أبناء الطّيف الواحد من السياسيين. وبذلك سُجّلت كثير من الملاحظات على واقع العملية السياسية، وازدادت الانتقادات لها على مرأى ومسمع الجميع، عبر تظاهرات حاشدة جابت شوارع وساحات أغلب المدن العراقية في الجنوب والوسط. إذ تمخضت هذه الإحتجاجات عن ولادة حكومة جديدة أخذت على عاتقها العمل على إجراء انتخابات مبكرة في العاشر من تشرين الأول من العام الحالي، لتأتي موافقة لثورة تشرين من عام 2019 م، بعد أن تم تغيير قانون الانتخابات، وجعله على دوائر متعددة في المحافظة الواحدة. وبذلك يتسنى للمواطن من اختيار الشخص المناسب في الدائرة الانتخابية لمنطقة سكناه، بحكم التشخيص الدقيق للمرشّح. والإطّلاع عن كثبٍ لنشاطاته الإنسانية التي تثبت للغير كفاءته المهنية التي تؤهلهُ ليكون ممثّلاً لأبناء الشعب، وراعياً لحقوقهم من الهدر والإهمال. وأنَّ هذا التغيير لايتحقق إلّا بفعل إرادة الجماهير، وحجم مشاركتها، وحسن اختيارها، وشعورها بمسؤوليتها الإنسانية أمام الله والدولة والمجتمع، من أنَّ الاختيار قد تمَّ وفق الدوافع الوطنية، والمصلحة العامة للبلد، بعيداً عن التخندقات الفئوية والطائفية والقبَليَة، التي جُرّبت قبْلاً ولم تُجدِ نفعاً، وخسِرَ بسببها العراق عقوداً من الزمن، إنعكست سلباً على مصير أبنائهِ، ومستوى تطوره، وعلاقاته الخارجية.