رؤية في بقايا الطوطميَّة في المجتمع العراقي

آراء 2021/09/19
...

 د. يحيى حسين زامل
 قد تبدو مفردة «طوطم» أو «توتم» غريبة في ثقافة المجتمع العراقي، ويبدو أنها غير مستعملة بالمرة في متداولات لغة العراقيين، بوصفها نظاماً أو نسقاً دينياً أو سحرياً أو ثقافياً غربياً، ولكن النظرية التي جاء بها الأنثروبولوجيون تنطبق تماماً على بقايا ممارسات وطقوس وسلوكيات ومعتقدات سحرية يرى فيها الممارسون بأنها حارسة تمنح ممارسها أو حاملها القوة والغلبة والهيبة والسلطة على الآخرين، من خلال حمل عظام بعض الحيوانات واسنانها وجلودها وأعضاءها المختلفة. 
 
ما الطوطم؟
 بحسب «علي عبد الواحد وافي» في كتابه «الطوطمية أشهر الديانات البدائية» تطلق كلمة «توتم» «Totem» التي تنسب إليها العقيدة التوتمية أو النظام التوتمي «Totemisme » على كل أصل حيواني أو نباتي تتخذه عشيرة ما رمزاً لها، ولقباً لجميع أفرادها، وتعتقد أنها تؤلف معه وحدة اجتماعية ذات منزلة مقدسة، فإذا كان الذئب مثلاً توتماً لعشيرة ما، فمعنى ذلك أن هذه العشيرة تتخذ هذا الحيوان رمزاً لها يميزها عما عداها من العشائر، ولقباً يحمله جميع أفرادها للدلالة على انتمائهم إليه «ص 7»، ويضيف عبد الواحد: وقد انتشرت هذه الديانة بين السكان الأصليين لأستراليا، وان لها رواسب كثيرة لدى شعوب الساميين في شمال أفريقيا ووسطها وفي مدغشقر وجزر الملايو وبولينزيا واندونسيا والفلبين والهند الصينية والصين والهند وفي مواطن أخرى، ولها اشباه ونظائر في كثير من ديانات العالم القديم، لا سيما ديانات اليونان والرومان، وفي كثير من عادات والشعوب وتقاليدها «ص 9»، وأول من أدخل اصطلاح «الطوطم» إلى اللغة الإنجليزية هو الرحالة ج. لونك عام 1791، في كتابه «رحلات مترجم هندي وأسفاره»، واستعملت كلمة الطوطمية في الدراسات الأنثروبولوجية لأول مرة من قبل الأنثروبولوجي الإسكتلندي «ماكلينان» في عام 1870، حين كتب مقالا بعنوان «الطوطمية». 
 
الطوطمية العراقيَّة
 يرى الكثير من الباحثين أن الديانة الطوطمية كانت موجودة عند العرب في الجاهلية أيضاً قبل ظهور الدين الإسلامي، إذ كان لكل قبيلة منهم صنم خاص بها على صورة حيوان أو إنسان، بوصفه جسداً مادياً تعتقد به الجماعة التي تقدسه، وأنه يحتوي على صفات روحانية خارقة، ويدخل ضمن مقدساتها وميراثها، وتعد أرض الرافدين «العراق» بما تمتلك من مؤهلات ومقومات طبوغرافية - اقتصادية واجتماعية وتجارية- مهداً للحضارات التي لا تخلو من المعابد الدينية والمراكز الحضارية، إذ كان لكل مدينة أو قرية معبد خاص بها يعبر عن هويتها وثقافتها وطقوسها وممارساتها الرسمية والشعبية، وتقام في هذه المعابد مختلف الطقوس الدينية ويقدمون فيها القرابين والأضاحي البشرية والحيوانية والنباتية، وعلى مر السنوات والقرون اتخذ الكثير منهم أجزاء هذه الأضاحي طواطم يحملونها معهم، مثل جلود الحيوانات وانيابها وقرونها، ويتخذونها أحرازاً وتمائم يحملونها في جيدهم أو زندهم أو في جيبهم، بصفته راسباً دينياً وسحرياً وثقافياً مقدساً، لذلك ترى اليوم على الرغم دخول أكثر أبناء المجتمع العراقي الدين الإسلامي، ودخولهم في مرحلة متقدمة من المدنية، إلا أنه يحمل هذا الراسب الثقافي، لرسوخه في التراث الثقافي الذي يصعب التخلي عنه، وهو ما زال باقياً في عقائده الدينية والثقافية
 والنفسية. 
الهدهد طوطماً
اتخذ الكثير من اصحاب الطقوس الطبية والسحرية طير الهدهد طوطماً، وافردوا له في كتبهم شروحاً واسراراً واستطبابات عدِّة، فقد ذكر الشيخ داوود الأنطاكي في كتابه تذكرة أولى الألباب في الجزء الثالث منه منافع عديدة للهدهد، من خلال استعمال دمه أو ريشه، إذ يشد على العضد للمساعدة في الاختفاء عن الأعداء«ص68»، ويستعمل بعض أبناء المجتمع العراقي عظام الهدهد أو ريشه
لأغراض عديدة، مثل المحبة والتهييج والحماية والوقاية من السلطان، والهيبة في قلوب الآخرين، لذلك يباع بأسعار غالية أو خيالية نظراً لصعوبة الحصول عليه، وكذلك صعوبة استخراج العظم المطلوب، وقد شرطوا طقوساً وطرائق في ذبحه وحمله من الطهارة واستقبال القبلة ونحوها كشرط للعمل، ومن الجدير بالذكر أن الهدهد قد حُرّم أكله في الدين الإسلامي، وبذلك ينطبق عليه شروط الطوطم تماماً، إذ يحرم الاقوام البدائية أكل الحيوان الذي يعدونه طوطماً لحسابات دينية، وقد ذكره القرآن الكريم كأحد الطيور المباركة أو المقدسة والمصاحبة لأحد أنبياء الله، وهو «النبي سليمان» في القصة
 المعروفة. 
 
ناب الذئب
 ارتبط الذئب أيضاً بخرافات وأساطير كثيرة، فمن تحول البعض إلى مستذئبين، ومروراً في طريقة حياته وطعامه، فقد ساد في المعتقد الشعبي أن الذئب يعيش على أكل الإنسان اسبوعاً، وعلى الجان اسبوعاً، وعلى الهواء اسبوعاً، وأنه الوحيد الذي يرى الجن، ويعد الذئب عند الكثير من الناس من أشرس الحيوانات واذكاها ومن الصعب جدا اصطياده، لذلك فهو يحمل صفات ودلالات سحرية ذاتية يستطيع حامل بعض أجزائه أن يستفيد من هذه السمات السحرية فيه، لا سيما نابه، مثل الشجاعة وقوة القلب والهيبة واحترام الناس، وباعتقادهم ان من يحمله يحميه من أذى الجن والسحر والاعمال وغيرها من الأمور، وتستعمل العديد من الثقافات ناب الذئب لأهميته الكبيرة عندهم، وهم يشترطون أن يكون من الفك العلوي في طريقة خاصة لاستخراجه، وكذلك الذئب محرم أكله في الشريعة الاسلامية، وهو كذلك تنطبق عليه شروط الطوطم، ويعد من الرواسب الثقافية الباقية في 
المجتمع. 
 
طواطم أخرى
 ولو بحثنا في الراسب الثقافي العراقي عن الطواطم واشباهها سوف نجد الكثير من هذه الطواطم مثل «فرج الضبعة»، إذ يستعمل بعض السحرة والروحانيين فرج أنثى حيوان الضبع في بعض الممارسات السحرية، لا سيما قضايا المحبة وتهييج النساء، إذ تميل النساء بحسب اعتقادهم لحامل هذا الطوطم، وكذلك العرق المشهور «بعرﮒ السواحل»، والذي يقسمونه إلى بحري ونهري، وأن الذي يجلبه هو حيوان القنفذ أو ذكر السلحفاة «الرفش»، في طريقة معينة، ويذكرون له صفات عجيبة وغريبة من المحبة والجاه وفتح الاقفال والأبواب، وهو على عدِّة أشكال، واشهرها يكون على شكل حلزون بطول أصبع الإنسان العادي، ويطلقون على بعضه «الدكتور»، ويكون ذا أثنتي عشرة لفة، ويحمله الطالب على زنده أو جيده، ويمضي به إلى مطلوبه، وهو من أندر الطواطم 
وأغلاها. 
 
طواطم قبلية
 ويرى المفكر العربي جواد على «1907 -  1987» في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» الذى صدر في سنة 1969، أن العلماء المحدثون قد لاحظوا أن بين أسماء القبائل، هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد أو أجرام فلكية، كما لاحظوا أن بين المصطلحات الواردة في النسب مصطلحات لها علاقة بالجسم وبالدم، وقد وجدوا أن بين هذه التسميات والمصطلحات وبين البحوث التي قاموا بها في موضوع دراسة المجتمعات البدائية صلة وعلاقة، وأن للتسميات المذكورة صلة وثيقة بـ«الطوطمية»، ومن أسماء الحيوانات التي تسمت بها القبائل والعشائر: مثل: بنى كلب، أو كليب، والنمر، والذئب، والفهد، والضبع، والدب، والوبرة، والسيد، والسرحان، وبكر، وبني بدن، وبني أسد، وبني يهثة، وبني ثور، وبني جحش، وبني ضبة، وبني جعل، وبني جعدة، وبني الأرقم، وبني دُئل، وبني يربوع، وقريش، وعنزة، وبني حنش، وبني غراب، وبني فهد، وبني عقاب، وبني أوس، وبني حنظلة، وبني عقرب، وبني غنم، وبني عفرس، وبني كوكب، وبني قنفذ، وبني الثعلب، وبني عجل، وبني أنعاقة، وبني هوزن، وبني ضب، وبني قراد، وبني جراد، وما شاكل ذلك من أسماء، ولا يمكن في نظره إلا أن تكون أثرًا من آثار الطوطمية، ودليلاً ثابتاً واضحاً على وجودها عندهم في القديم.
 
لماذا الطوطم؟
 اختلف الباحثون بشكل كبير في تفسير «الطوطم»، وقد ربط «سيغموند فرويد» بين «الطوطم» ومحرمات الزواج، لأنه كل قبيلة تتخذ طوطماً ما يحرم الزواج فيها من نفس أبناء الطوطم، بينما ربط «إميل دوركايم» بين «الطوطم» و»التابو»، إذ إن المنع والتحريم يكونان في الزواج والأكل، إذ يحرم تناول لحم «الطوطم»، إلا للكهنة أو وقت الضرورة، بينما فسره آخرون تداخلاً بين الثقافة الطبيعة، بينما انتقد «كلود ليفي ستروس» في كتابه «الطوطمية اليوم» عام «1962» الطرح السابق، فالطوطم عنده بصورة متعاكسة تماماً، ولا يترجم برأيه تداخلاً بين الثقافة والطبيعة، بل يعد انقطاعاً تاماً بين هذين النظامين، «الحظر الغذائي/ الزواجي» ينتج عنه حركة ذهنية مزدوجة، وإدراك تمايز الأجناس في نظام الطبيعة، واستعمال الفروقات التي يتم إدراكها لتحديد التمايز داخل النظام الاجتماعي «منطق التصنيف»، بينما نميل إلى تفسير الرواسب الطوطمية في المجتمع إلى النفعية الفعلية «الفعل الاجتماعي/ السحري»، بصفته متخيلاً اجتماعياً وثقافياً متوارثاً، وطريقة للانتقاع ببعض الحقوق في زمن ضاعت فيه الحقوق والحريات، وكلما زادت الحياة الاجتماعية سوءاً وشهدت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تردياً، زاد الميل إلى هذه الرواسب بوصفها طريقة لاستعادة الحقوق المسلوبة، أو لزيادة الحقوق
 المتحصلة.