لماذا اختارت فرنسا التهدئة مع أميركا وتحمّلت الطعنة في الظهر؟

آراء 2021/09/28
...

  سعاد العبدالله*
أيام من التصعيد السياسي والإجراءات الدبلوماسية غير المسبوقة، منذ امتناع باريس عن المشاركة في الحرب الأميركية على العراق. أزمة الغواصات، أنهاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمكالمة هاتفية مع نظيره الأميركي جو بايدن، بينما كان وزير خارجيته جان إيف لودريان يجري {محادثة جيدة} مع نظيره الأميركي!
{الخيانة} و{الطعن في الظهر} و{انهيار الثقة}، أوصاف ساقتها الدبلوماسية الفرنسية ضد واشنطن تبخرت بسحر ساحر، وظهرت باريس في موقع الذي اختار التهدئة والاستقرار في العلاقة مع الولايات المتحدة بديلا للصدام والتوتر. فما الذي تغيّر حتى تراجعت فرنسا عن تشددها، لا سيما أنها سعت إلى شد عصب الاتحاد الأوروبي للتضامن معها وحصلت على موقف مؤيد أعلنه وزير الخارجية الأوروبية جوزيف بوريل؟.
حتى الآن لا تفصح الأوساط الدبلوماسية عن كواليس التهدئة التي اختارها الرئيس ماكرون، كما لا يوحي البيان المشترك بين الأخير وبايدن بما أنجزه الطرفان لتسوية أزمة الغواصات وحاضنتها التحالف الأمني البريطاني الأسترالي الأميركي في المحيطين الهندي والهادئ، الإشارة حول {إطلاق سلسلة من المشاورات المعمقة} بين الطرفين لا تشفي غليل المراقبين والمحللين الباحثين عن إجابات للغموض.
صحيفة {لوموند} الفرنسية كتبت في افتتاحيتها تقول إن فأس الحرب دفنت، لكنها في مكان آخر تساءلت عما إذا كان الخلاف انتهى أم أنها فترة تهدئة؟ يعكس هذا التناقض حال المجتمع السياسي الفرنسي الذي أذهلته وقائع الغدر الأميركي والإهانة التي تعرضت لها باريس، سواء بالاستيلاء على صفقة الغواصات مع أستراليا أو عبر استبعادها وتجاهلها من التحضيرات للحلف الأمني في المحيطين الهادئ والهندي، كما لو أنها ليست دولة كبرى أو حليفة لواشنطن وركنا أوروبيا أساسيا.
في أروقة السياسة الفرنسية لا تحجب عودة {الهدوء} بين العاصمتين الفرنسية والأميركية الغضب والتساؤلات والإحباط. صعود إدارة ماكرون إلى أعلى الشجرة ونزولها عنها بهذه السرعة، يرى ساسة فرنسيون فيهما سقوطا مدويا وانهزاما أمام واشنطن من دون مبرر أو مكاسب. المعارضة الفرنسية التي تكافح لتكوين أرضية مناسبة لهزيمة ماكرون في الانتخابات الرئاسية المقبلة العام المقبل، رفعت لواء الإدانة والاحتجاج على فشل الديبلوماسية الفرنسية في إدارة المعركة مع بايدن وتخليها عن ماء وجهها لقاء وعود أميركية بـ{دفاع أوروبي أقوى وأكثر كفاءة} و{استكمال دور الناتو}. 
هذه الصياغات الغامضة التي ربما أسالت لُعاب إدارة ماكرون لا تلبي رغبات بعض دوائر المعارضة في فرنسا التي تعبّر عن يأسها من استمرار أميركا في تقزيم دور فرنسا وأوروبا عموما.
المقربون من قصر الأيليزيه لديهم موقف آخر يستند إلى ما يصفونه بالإنجاز في محادثات بايدن ماكرون: اعتراف الولايات المتحدة بأن منطقة المحيطين الهندي والهادئ ليست منطقتها الخاصة، وأن فرنسا الموجودة هناك، كما الاتحاد الأوروبي، الذي قدم ستراتيجيته للمنطقة الأسبوع الماضي، لهما دور. 
وقبل كل شيء تشديد بايدن وماكرون على الحاجة إلى دعم الولايات المتحدة للحرب ضد الإرهاب بقيادة فرنسا وبمساعدة الأوروبيين في منطقة الساحل في إفريقيا، وهو أمر مهم.
ما سبق وعود أميركية جديدة – قديمة حصل عليها الأوروبيون في غير مناسبة وعند كل خلاف. وبرأي محللين للستراتيجية الأميركية فإن الشيطان، كما هو معروف، يكمن في التفاصيل، إذا بإمكان الأميركيين نسف أو تفسير ما اتفقوا عليه أو وعدوا به وفقا لمتطلباتهم وأهدافهم. إدارة دونالد ترامب وغيره من رؤساء أميركا حتى وصول بايدن في صفقته الأسترالية الغادرة، خير مثال على التلاعب الأميركي بأوروبا.
في فرنسا وأوروبا عموما ميل واضح وعميق لإحداث تحول في خارطة التوزانات في العالم. الاستغناء عن العملاق الأميركي أمر غير وارد في الظروف الراهنة. 
لكن القناعة تزداد بمصيرية تمكين أوروبا من بناء شخصية مستقلة في الميادين العسكرية والاقتصادية. 
فكرة تكوين جيش أوروبي قادر على خدمة مصالح الاتحاد الأوروبي أصبحت الشغل الشاغل للدول الأساسية في الاتحاد، وتحتاج إلى مشروع جدي وواقعي لتمكين قادة اوروبا من لعب الدور الذي يأملون به كقوة موازية لأميركا وروسيا والصين.
 
* كاتبة لبنانية