الجذور العربية والإسلامية لعلمي الاجتماع والأنثروبولوجيا

آراء 2021/09/29
...

  د. يحيى حسين زامل
 
 نقرأ كثيراً في الأدبيات الأنثروبولوجية والاجتماعية من جهة تاريخية نشوئها وجذورها ورجوعها إلى الفكر الغربي بشكل بحت، ويرجعون أصولها الأولى إلى عدِّة من الرواد، مثل : {هيرودوتس} (Herodotus)،(480 ق م - 420 ق م)، في دراسته الوصفية عن الشعوب المختلفة، و{مونتيسكيو} Montesquieu)) (1689 -1755)، في كتابه {روح القوانين}، و{جان جاك روسو} (Rousseau) (1712 -  1778) ، في كتابه {العقد الاجتماعي}، و {تشارلز داروين} (Darwin) (1809 -1882)، في نظريته التطورية، وإلى {أوكست كونت} Comte) ‏((1798 – 1857)، عندما أطلق مصطلحه {علم الاجتماع}، و{دوركايم} و{فيبر}، وغيرهم كثير، متناسين التراث العربي والإسلامي، بعمد أو غير عمد وما يزخر من تراث اجتماعي وأنثروبولوجي من قبل فلاسفة وأعلام ورحّالة، كتبوا عن مختلف المواضيع الاجتماعية والأنثروبولوجية، كالثقافة والأديان والعادات والتقاليد والرموز والاساطير في المجتمعات البدائية والمتمدنة، من أمثال ابن خلدون، والبيروني، والفارابي، وابن فضلان، وابن بطوطة، وغيرهم كثير.
 
تساؤلات.. واستفهامات
 ويمكن أن نطرح عدِّة تساؤلات حول هذا الموضوع من جهة سببه، أولاً، ومن ناحية انعكاساته، ثانياً، ومن جدوى طرحه في هذه الأيام وقد مضى أكثر من قرن على هذا التأسيس، وقد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، ولكن يبدو أن العلم وتساؤلاته ليس لهما حدود، وما طرح هذا الموضوع على منضدة البحث إلا استقراء منهجي يعقب بعض الاجوبة المطروحة في الساحة، أو المستجدة، مما أنتجه العقل البشري، وما أستنتجه لاحقاً من قراءته ورؤيته المعاصرة.
 
خطف الأنثروبولوجيا العربية
 ويمكننا أن نطرح بعض الإجابات عن التساؤلات المطروحة للموضوع، مما استنتجه البعض والذي يمكننا أن نقتبس منه هذا النص من لقاء مع الأنثروبولوجي العربي {عبد الله يتيم}، وجوابه المقارب لهذا الموضوع، بقوله: يبدو أن الساحة العربية قد خطفت من الأنثروبولوجيا، وشروط انجلوسكسونية تتحكم في كتابة {شتراوس} و{فوكو} و{دريدا}، والمشكلة أن هذه الوقائع يجري تغافلها عند العرب ولا يبقى في الميزان الا ركامات من المبالغات الآنفة – كون الأنثروبولوجيا علماً للاستعمار-، ومن هذه الوجهة يتحدد التعامل مع الأنثروبولوجيا كما لو كانت ستاراً لـ {شعوبية جديدة} وتهديداً للوحدة القومية عبر الحديث عن ثقافات محلية صغيرة وغير ذات بال، وهكذا يدخل دعاة هذه النظرة في مونولوج الخوف من تجزئة الوطن العربي والتحذير من مغبة التشقيق الفسيفسائي الذي يتنادى له الأنثروبولوجيون، وهذه مشكلة عانت منها الأنثروبولوجيا، وما زالت تعاني على صعيد مشروعيتها العربية وربما لا يداني هذه المشكلة في ضراوتها سوى ما استحسن ان اسميه {اختطاف الماركسية}. 
 
الافتتان بالفكر الغربي
 ويبدو أن الاختطاف لا يزال سارياً إلى هذا اليوم في بلداننا العربية، ونحن نشهد تراجع الاهتمام بالعلوم الاجتماعية والانسانية المهمة، بسبب الدوافع السياسية للحكام العرب وهواجسهم الأمنية والبوليسية، ويمكننا أن نضيف أسباباً أخرى، منها: أن للغرب جانبا إعلاميا مائزا في الترويج لمفكريه وعلمائه، فضلاً عن كثرة النشر والطبع في العالم الغربي، مما ولّد لدى العامة والخاصة قضية السبق والحيازة، كما أن هناك اهمالاً واضحاً لباحثي الأنثروبولوجيا والاجتماع العرب لتراثهم والافتتان بالفكر الغربي بكل ما يحمل من علوم وأفكار ونظريات، ويبدو أن هذا الافتتان أزهدهم بالتراث العربي وسمح لغيره بالتغلغل والاستيطان في أدبياتنا الاجتماعية والأنثروبولوجية فصار هو القول الفصل، وأن طُرحت بعض الافكار على حياء واجهها البعض بالاستنكار والاستهجان، فدعا ذلك إلى العزوف عن هذا التراث الثري، واستبداله بالآخر، والحق أنه لا يمكن إنكار نتاجات الفكر الغربي من علوم ومناهج ونظريات ولا يمكن أن نلغيها كذلك، ولكن يمكننا أن نضع بجانب النتاجات الغربية، النتاجات العربية أو الشرقية أو الإسلامية على اقل التقادير مما يولد انعكاسا على نتائج هذه العلوم من خلال تواشجها معاً للوصول إلى أفضل التحليلات والتفسيرات والنتائج.
 
البيروني.. أنموذج أنثروبولوجي
 وفي الاستدلال على اهمية الاشتغالات الأنثروبولوجية يمكننا أن نشير لأعمال {ابي الريحان البيروني} الأنثروبولوجية، ومما ذكره الباحث {صلاح الدين الناهي} في كتابه {الخوالد من آراء ابي الريحان البيروني} أن للبيروني نظرات في فلسفة الأنثروبولوجيا، فقد استعرض في كتابه {الجماهر} أهم قضايا هذه الفلسفة على أساس من التحليل العلمي للإنسان انطلاقاً من وظائف الحواس التي ينفرد بها نوع الإنسان، ويتفرد بحيازتها، وقد فضل نوع الإنسان في نظره على جملة الحيوان بما شُرّف من قوة العقل، فما هو وجه الفضل الذي احرزه الإنسان بقوة العقل ؟ أنه على حد قوله ترشحه بموجب ذلك للخلافة في الأرض على التعمير وإمامة السياسة فيها (ص25)، ولعل أروع مثال على العمل الأنثروبولوجي للبيروني كما في كتابه {تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة}، والتي استعمل فيها البيروني الكثير من التصورات والمفاهيم والخطوات، التي اصبحت في ما بعد جزءاً اساسياً في منهج البحث في الدراسات الأنثروبولوجية، كالمعاينة والملاحظة وتعلم لغة الأهالي، ويجمع عدِّة من المهتمين بأعمال البيروني، بأنه رائد من رواد الأنثروبولوجيا، بل يرى البعض أنه الأب الحقيقي للأنثروبولوجيا 
(Ahmed, Akbar S. (1984). {Al-Beruni: The First Anthropologist}. RAIN (60): 9–10.)، ولعل هذا ما دفع المستشرق {سخاو} إلى ترجمة كتابه المذكور، ووصفه بأنه أعظم عقلية عرفها التاريخ.