إنما الأمم الأخلاق

آراء 2021/10/02
...

 د.محمد فتحي عبد العال
في تقريره عن {انتشار البغاء والأمراض التناسلية بالبلد المصري، وبعض الطرق الممكن اتباعها لمحاربتها» عام 1924 أوضح الدكتور «فخري ميخائيل فرج» طبيب الجلد والأمراض التناسلية بالعاصمة، أن ثمة أسبابا لاستفحال ظاهرة البغاء من بينها: «الرغبة في التجربة وعشق كل لذة جديدة وتعشق الاستمتاع بالرجال». قد يبدو التعليل غريبا ولكن حينما بحثت بين جنبات الواقع وتحديدا في هذه المساحات الزمنية من الماضي، وجدت التجسيد الحي لملامح هذه الطائفة من النساء ودوافعها بين دفتي مذكرات عميد المسرح العربي «يوسف وهبي»، الرجل الجهوري ذو الملامح الصارمة والمدافع عن الفضيلة والقيم والأخلاق بأفلامه ومسرحياته! لكن ما حملته مذكراته «عشت ألف عام» كان صادما لي بالدرجة الأولى، علاوة على جمهوره ممن قرأ هذه المذكرات 
 
 حيث يكشف لنا عن وجه آخر وهو علاقاته النسائية فيقول: «مغامرات مع الجنس اللطيف تفوق حد الخيال، راغبات في خلق علاقات مع ذوي الشهرة، وفضوليات متعطشات للتذوق والتجربة، فراشات تغريها الأضواء يتساقطن في أتون النار، لكنني كثيراً كنت ضحية للمغريات.
أنا لا أدعي أنني كنت قديسًا أو راهبًا في محراب، أو متصوِّفًا، أو معصومًا من الخطأ والشهوات، لكنني - كغيري أيام الشباب والفتوة - كنت أستجيب أحياناً للإغراء والجمال في شيء من النهم».
من الأسباب الأخرى التي ساقها الدكتور فخري «الزواج المبكر» وسأسوق من واقع هذه الفترة مثالا لا يقل صدمة عن المثال السابق، ولكن هذه المرة من مذكرات الضاحك الباكي الذي عشقناه جميعا «نجيب الريحاني»، حيث يحكي عن فضيحة أخلاقية كانت السبب في فصله من شركة السكر، التي كان يعمل بها خلاصتها أن باشكاتب الشركة كان رجلا مسنا كان «رحمه الله على نياته» فاستغل الريحاني قرب منزله من منزل الرجل المسكين وواعد زوجته الجميلة والصغيرة السن «سن تسمح لها بأن تكون ابنة لا زوجة له»، وكان زوجها المسن في مهمة عمل اضطرته للسفر، ولكن يشاء القدر فضح الريحاني حيث تحكم الخادمة «اللعينة» قفل مخدع سيدتها من الداخل، فيحاول النفاذ عبر منفذ في السقف فاستيقظت الخادمة وظنته لصا «فصرخت بصوتها المنكر وصحا الجيران»، حقا مؤسف للغاية أن نرى فنانينا المدافعين عن القيم في حياتهم الخاصة على غير ما نراه على الشاشة. 
نعود لأسباب الدكتور فخري الأخرى ومنها وجود نساء يتنقلن بين المنازل تحت مسميات مثل بلانات «خادمات بالحمامات الشعبية يقمن بتدليك النساء» وماشطات «مزينة الشعر وتقوم بتزيين العرائس» وهي «واسطة إفساد الأخلاق ونقل رسائل العشاق» ويضيف لأسبابه «تعدد الزوجات» و«توقع الطلاق» و«الزواج الانتفاعي» و«الزواج الاجباري» كما يسوق سببا طريفا وهو رغبة الوطنيات «المصريات» في تقليد الأجنبيات في أزيائهن، فتبيع عرضها بخسا للحصول على فستان موده «موضة» أو حذاء جميل، خاصة إن كانت زوجة لرجل من الطبقة الوسطى لا يمكنه شراء كل فستان او حذاء تبعا لتغير الموضة للمرة الثالثة أو الرابعة كل عام، كما يسلط الضوء على السبب في ذلك وهو الرخاء المالي الكبير في هذه الفترة الذي عمل على تزايد الفجوة بين أصحاب الأملاك والمهن الحرة والتجار بالمقارنة بالموظفين «الذين ما كانت لتزيد مرتباتهم».
من الأسباب التي ساقها أيضا الدعاية التجارية للروايات التي تنصح السيدات والآنسات بعدم القراءة أو المشاهدة علاوة على «انتشار التمثيل الهزلي في العواصم وسماح الرجال لأسرهم بالزيارة للمسارح الساقطة» التي تسمى «ماتينيه السيدات»، بينما يؤكد الدكتور فخري في الوقت ذاته إيمانه بأن التمثيل من أهم وأقوى طرق التعليم والتربية، لكنه يجد أن المرأة المصرية ليست كالأجنبية فهي ما زالت على ما أسماه «الفطرة المقيدة المحبوسة» فهي «لم تدرس أخلاقا غير أخلاق زوجها، ولم تجالس إلا أباها وأخاها وخالها وعمها»!! وحتى نفهم هذين السببين بشكل واضح، فلزاما ألا نفصل التقرير عن الواقع الذي يرصده في تلك الآونة، فقد كانت المسرحيات تعرض بالصالات الاستعراضية بين فواصل الرقصات وللأسف كانت مقصدا لكثير من الأسر، لكونها أقل تكلفة مقارنة بالمسارح ومن هذه الصالات والتي شهدت رواجا كبيرا في هذه الآونة صالة «بديعة مصابني» وصالة «ببا عز الدين» و«سعاد محاسن» و«ماري منصور» و«رتيبة وأنصاف رشدي»، ونظرا لكون غالبية هذه الصالات مملوكة لراقصات فكان الرقص الخليع والمنولوجات تؤدى إلى جانب المسرحيات قصيرة المدة والجمهور بين أسر وشباب وشيوخ سكارى وغير 
سكارى.
أما موضوع المسرحيات فكان منها المترجم ومنها المؤلف وكان بعضها يتسلل للبيوت المصرية وهي تحمل على غلافها هذا التنبيه «استلفات نظر لا يجوز للنساء قراءة هذا الكتاب» وقد وقع تحت يدي كتاب من هذا النوع وأنا من هواة اقتناء ورصد الكتب القديمة والكتاب هو: «المضحكات مجموعة أدبية فكاهية غرامية تأليف واختيار محمود عزت المفتى صاحب المكتبة العصرية ومطبعتها» وكل ممنوع مرغوب بطبيعة الحال.
كان الدكتور فخري يرى أن «البغاء لا تنفع فيه قوة ولا قوانين ولا لوائح» فانجلترا لا تسمح بالبغاء الرسمي وفرنسا تسمح به وألمانيا تجرمه لكن تجيزه في حدود معينة، ومع ذلك فجميع هذه الدول سيان في درجة امتلائهم بالبغاء !! وأن المجتمع ليس منصفا في تحميل المرأة وحدها مغبة هذا الأثم وأن الحل يكمن في تحسين الحالة الاقتصادية لكل طبقات الأمة ونشر التعليم الصحيح عن مبادئ الفضيلة والعفاف وأن التعليم لا يقصد به الدائرة الضيقة «بين جدران المدارس» ولكن «التربية المنزلية والأسرية» هي الأجدى نفعا والطريف هو وصفه لنتاج التعليم في زمنه بقوله “مدارسنا لا تخرج رجالا، بل «خدمة للحكومة» رحم الله الرجل النبيل فلو أدرك زماننا فماذا سيكون حكمه؟!.
ومن جهود الدكتور فخري ننتقل إلى جهود رجل آخر جعل إلغاء البغاء على قمة أولوياته وعلى طريقة ما نسميه في زماننا «التوك شو» انبرى الرجل في عقد جلسات مجتمعية وسجالات ومحاورات مع الوزراء والمسؤولين وحتى الأمراء من البيت العلوي، من أجل حشد الهمم لإلغاء البغاء في مصر إنه الشيخ الجليل «محمود أبو العيون» المفتش بالجامع الأزهر وخطيب ثورة عام 1919 وأحد رموزها، ومن مجادلاته حديثه لعدلي يكن باشا رئيس الوزراء «تولى رئاسة الوزراء ثلاث مرات بين عامي «1921 -  1930» والذي كان يرى أن الهدف من تنظيم البغاء الحصر في نطاق ضيق ومراقبة المريضات بالكشف والعزل، فكان رد الشيخ أن العكس هو الحاصل من انتشار الفسق والأمراض السرية وأماكن البغاء، فكان اقتناع رئيس الوزراء في النهاية وكذلك وزير الزراعة وقتها محمد فتح الله بركات «1926 - 1927» كما ضمن الشيخ في كتابه “صفحة ذهبية آراء وزراء الدولة المصرية في البغاء وآراء رجال مسؤولين وأمير من كبار الأمراء «والصادر عام 1928 آراء عدة من بينها رأي الأمير شكيب ارسلان «كاتب لبناني لقب بالأمير في البيان»، ورأي الأمير عمر طوسون وهو من الشخصيات المثقفة والإصلاحية في الأسرة العلوية وصاحب فكرة الذهاب لمؤتمر الصلح بباريس لعرض قضية استقلال مصر، والتي نفذها سعد زغلول باشا وأدت لاندلاع ثورة عام 1919 وقد جاء رأيه بحسب الكتاب «ما دمنا مسلمين فلا يسعنا في ديننا إلا أن نستنكر البغاء ونمقته أشد المقت رسميا كان أم غير رسمي». 
هنا لنا وقفة جديدة مع عبقرية المكان بدأتها في كتابي «مرآة التاريخ»، راصدا تلاحم أقطاب الأمة في أتون ثورة 1919 وها هو التلاحم قد عاد من جديد مع قضية اجتماعية لا تقل خطورة عن الاحتلال، بل نشأت في ركابه نجد، معها تلاحم القوى الوطنية مجسدة في الدكتور فخري ميخائيل والشيخ محمود أبو العيون حتى وإن اختلفت المقاصد.
 
 كاتب وباحث وروائي مصري