روسيا وهندسة الأمن الجديدة في منطقة الخليج

آراء 2021/10/03
...

 نيكولاي كوشانوف
 
 ترجمة وإعداد: أنيس الصفار 
الجهود التي تبذلها القيادة الروسية لإشاعة «الأمن الجماعي» في منطقة الخليج ليست اكثر من محاولة لمسايرة اجواء الدبلوماسية الشائعة حالياً، حيث ان هناك تطورات اقليمية عديدة قد وقعت مؤخراً تثبت ان المجتمع الدولي راغب في التصدي الجدي للفوضى السياسية والمساعدة على إحلال مزيد من الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما منطقة الخليج. بالتالي وجدت موسكو ان عليها ايضاً طرح تصوراتها لخفض التوترات السياسية في المنطقة كي لا تتخلف عن اللاعبين الآخرين.
في اعقاب زيارته لدول مجلس التعاون الخليجي خلال الفترة آذار- نيسان 2021 لفت وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافروف» انتباه المجتمع الدولي الى ما وصفه بـ«مفهوم الأمن الجماعي في منطقة الخليج»، وهي مجموعة من المبادرات الروسية دعا الوزير الى تطبيقها من خلال لقاءاته بالمسؤولين في منطقة الشرق الأوسط. الفكرة الجوهرية في هذا المسعى ليست جديدة حيث تتضمن الشروع بحوار متعدد الصياغات بين اللاعبين الاساسيين في المنطقة لمناقشة القضايا القائمة. 
كان الكرملين يروج لهذا المفهوم منذ أواخر التسعينيات وكان كثيراً ما يعاود طرحه خلال الازمات الدبلوماسية والاحداث التي تصيب المنطقة، بيد ان موسكو اليوم تحاول التقدم الى أبعد من ذلك من خلال الحديث عن ضرورة تطبيق مفهومها هذا في عموم منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على نحو شبيه بعملية هلسنكي 1972 - 1975.
اسباب عدة تفسر تجدد الاهتمام بمبادرة موسكو القديمة الجديدة، أولها ان منطقة الخليج لها أهميتها في دبلوماسية موسكو في الشرق الأوسط، وبشكل خاص خلال السنوات الخمس الماضية، وهذه ليس مفاجأة لأن اعضاء مجلس التعاون الخليجي من جهة وإيران من جهة أخرى لهم جميعاً ادوارهم المهمة في إنجاح مساعي موسكو الشرق أوسطية، يضاف الى هذا تحقيق اهداف السياسة الخارجية الأوسع في ما يتعلق بستراتيجية روسيا للتنمية الاقتصادية والأمن القومي. بيد ان هذا يتطلب من موسكو الحفاظ على علاقات وثيقة مع جميع دول الخليج، وهذه ليست مهمة سهلة نظراً لأجواء التوتر السائدة بين إيران والسعودية مثلاً. نتيجة لذلك يهدف مفهوم الأمن الجماعي الى تحقيق المصالحة بين الأطراف المتنازعة في منطقة الخليج، لا للارتقاء بدور روسيا كلاعب دولي أساسي في نظر دول مجلس التعاون وإيران فقط بل ايضاً لخفض التوترات في المنطقة بحيث يسهل على موسكو الحفاظ على توازن علاقاتها هناك.
ثانياً ان روسيا تمر بفترة تراجع كقوة عالمية بسبب ما يعتريها من ضعف اقتصادي وحتى سياسي بدرجة ما وهذا يحجم قدرتها على تسليط الضغوط وفرض وجودها في الشرق الأوسط. فمنذ العام 2019 جعلت الموارد المتضائلة والتحديات الداخلية المتصاعدة روسيا اقل ميلاً للتورط بصراعات جديدة او مشاريع تنطوي على مخاطر في الشرق الأوسط وكانت نتيجة ذلك ان عادت موسكو الى تبديل خياراتها في السياسة الخارجية وتحويل نشاطها من التدخلات الخطرة باهظة الثمن الى المبادرات الدبلوماسية الأقل كلفة ومجازفة. أضف الى هذا ان موسكو تصوغ تلك المبادرات ثم تدعو المجتمع الدولي لتطبيقها، وهذا يريح روسيا من ان تكون المسؤول الوحيد، في حالتي النجاح او الفشل، ويسمح لها بدلاً من ذلك أن تحمل الدول المشاركة الاخرى نصيباً من التكاليف المترتبة.
السبب الثالث والأهم هو ان الترويج النشط لمفهوم الأمن الجماعي سوف يمكن موسكو ببساطة من البقاء في الصورة، فانتصار بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، إنما جاء متزامناً مع تصفية عدد من صراعات المنطقة، وفي أغلب الاحيان كان هو السبب في تحققها، وهذا لا يقتصر على محادثات فيينا بشأن مصير خطة العمل الشاملة المشتركة «الخاصة ببرنامج إيران النووي» بل يمتد الى المحادثات بين المسؤولين الإيرانيين والسعوديين لإعادة العلاقات الثنائية بين البلدين والتصدي للوضع السياسي في لبنان واليمن، كما يشمل المصالحة القطرية مع السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وكذلك استئناف العلاقات السعودية السورية او تحسينها، أما موسكو فلم يكن دورها في جميع الحالات المذكورة ملحوظاً باستثناء العلاقات السعودية السورية. حتى انطلاق محادثات فيينا والجولة الأخيرة من المصالحة الوطنية الليبية، التي ما كانت لتشهد تقدماً لولا المشاركة الروسية، بقي فيها الدور الاساسي للغرب ودول المنطقة. ورغم مواظبة الكرملين على الدعوة لقيام حوار بين السعوديين والايرانيين او بينهم وبين القطريين، فإن دور موسكو في ذلك كله لم يكن مؤثراً من الناحية العملية. 
تبعاً لهذه الظروف لا يمكن اعتبار مفهوم روسيا للأمن الجماعي في الخليج اكثر من محاولة تقوم بها موسكو لتثبيت موقفها هي أيضاً بشأن أوضاع المنطقة، ومن بعد ذلك الأمل بأن يكون لها دور مهم وفاعل في وضع الهندسة الجديدة للأمن الاقليمي والعلاقات الدولية. جل ما تريده موسكو هو ضمان ألا يؤدي انتشار المفاهيم التي يطرحها الغرب او القوى الاقليمية الى تقويض مصالحها.
إمكانية تنفيذ المبادرات الروسية سوف تبقى تشكل تحدياً أساسياً لأن الوثيقة معقدة ولا تصل الى العمق المطلوب كما انها لا تسلط تركيزها على منطقة الخليج تماماً. فبسبب محاولتها إنتاج خارطة أساس مناسبة لجميع اللاعبين في الشرق الأوسط جعلت موسكو مفهوم مبادرتها فضفاضاً متسماً بالعمومية في تغطية مدى واسع من القضايا السياسية، وكانت نتيجة ذلك أن تبددت الفكرة الاساسية للمفهوم في خضم الوصف المعقد لمشكلات المنطقة.
ليس من الواضح الى اي مدى سيمكن لموسكو ان تكفل مقترحاتها وتضعها موضع التطبيق، كما ان من غير الواضح ايضاً مدى احتياج المنطقة الى هذا المسعى الروسي، لاسيما أن هناك على ما يبدو تحركات دبلوماسية تأخذ مجراها على مستويات واطراف عديدة في محاولة لتحقيق تسوية سلمية لصراعات المنطقة من دون مشاركة موسكو او بالقدر الأدنى منها. نتيجة لهذا كله سيبقى مفهوم «الأمن الجماعي» في منطقة الخليج مجرد مجموعة من الافكار التي لن يكتب لها النجاح. 
 
عن موقع «مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية»