المجتمعات الأحاديَّة

آراء 2021/10/06
...

 ْد. صائب عبد الحميد
 
نغفل جميعا أن المبرر الوحيد لكل ما نعتقد به نحن بني الانسان، وكل ما يمثل قناعاتنا، هو أننا نشأنا وترعرعنا عليه، فآمنا به وبكل مقدماته ولوازمه. وهذا هو الاصل الوحيد الذي يمنحنا كل هذه القناعات بصواب ما نحن عليه، وبخطأ ما سواه أجمع، مهما كانت أعداد معتنقيه، وأيا كانت جذورهم التاريخية، بل أيا كانت أدلتهم وبراهينهم.
 
من تلك الحالة التاريخية تتكون المجتمعات الاحادية. احادية البعد مهما تشاركت مع غيرها في الارض والمصالح المادية وحتى وحدة المصير في البقاء او الفناء، في الرخاء او الشقاء. فكل هذه المشتركات لا ترقى الى اختراق احاديتها وانكفائها على ذواتها، فتلك الاحادية تتغذى باستمرار على ذاتها وتستمد قوتها من ذاتها، وتستغني بذاتها عما سواها، فذاتها هي كل شيء.
انها تحتكر الحقيقة بشكل مطلق، وتحتكر الجمال والمعقولية والحجة والبرهان، وكل رأي بخلاف رأيها فهو باطل، وكل حجة غير حجتها فهي داحضة، وكل برهان سوى برهانها فهو زائف.
انها تعيب الاخرين، كل الاخرين على أنهم يدينون بدين حجته داحضة، ويمارسون طقوسا لا قيمة لها، ويتعبدون بطرائق باطلة سوف لا تزيدهم من الله الا بعدا، وفوق ذلك كله فهم (الآخرون) مغرورون بجهلم، متعصبون لباطلهم وحماقاتهم، لا يستمعون لقول حق ولا يحرك عقولهم برهان. الكل يعتقد أن الاخرين هم مصداق قوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)! الكل يواجه الكل باللغة ذاتها وبالقوة ذاتها والمنطق ذاته، دون أن يتنبه الى حجج خصومه عليه، ودون أن يتنبه الى حججه هو في نفسها هل هي حقا كما يعتقده في سلامتها ومتانتها وصمودها امام السؤال؟ ومن أين أتى هو بهذه القناعات؟ هل اتى بها عن طريق البحث الموضوعي المقارن؟ عن طريق النقد المنهجي لكل الحجج والبراهين للديانات والطوائف أجمع، فترسخت لديه القناعة بما هو عليه الان؟ 
هل يجد كل متدين بدين غير الهندوسية مثلا، أنه لو ولد في بيئة هندوسية ومن أبوين هندوسيين، وترعرع هناك بين أبناء دينه ومعتقده الهندوسي، هل يجد أنه سوف يتبرأ من الهندوسية ويعتنق ديانته التي هو عليها الان؟
أم أنه كأخيه الهندوسي تعلم كل شيء تلقينا من بيئته المجتمعية؟ من أسرته أولا، ثم من معلميه الذي هم مثله تماما في مصادر تلقيهم، ومن الدعاة الذي يبشرون بالعقائد ذاتها والمقولات عينها؟ وما هي حصيلة معارف هؤلاء الدعاة؟ كيف بلغوا ما بلغوه من قناعات؟. 
إن ما لا يستطيع الدعاة إدراكه إطلاقا هو أن أهم شيء يخدم العقيدة هو زعزعتها بين الحين والحين، من أجل أن تعيد بناء نفسها من جديد، ولكن بشكل مختلف حتما بعد أن تعلمت الوقوف عند بعض الاسئلة الجديرة بالاهتمام.
تابعوا أحاديث الدعاة في كل ملة، تجدون فيها ثلاثة محاور لا تزيد: تسطيح الوعي، ترسيخ العصبية لمعتقدات اهل الملة او الطائفة، والسخرية من معتقدات وتقاليد الاخرين دون استثناء.
فالجماهير في نظر الدعاة ينبغي الا تفهم سوى ما يجعلها أكثر تمسكا بالعقيدة وأكثر طاعة واتباعا لأسيادها الدينيين، ومنهم هؤلاء الدعاة أنفسهم. الجماهير في هذا المستوى من مستويات الخطاب لم تخلق لتفكر، إنما خلقت لتسمع وتطيع. وليس من حقها التفكير، بل حقها السمع والطاعة لا غير. فالجماهير ليست أكثر من جنود يجب إعدادها للقتال 
دوما. 
فكل هذه الاساليب، وعلى رأسها استخدام الجموع، إنما هي الوسائل الاكثر جدوى في بلوغ الغايات. وحين يكون النصر هو الغاية القصوى، فالغاية تبرر كل الوسائل، كما قال اكثر فلاسفة السياسة صدقا، مكيافيللي، وإن لم يكن أكثرهم شرفا ومروءة بكل تأكيد.
تتجسد الفجوة الكارثية حين نعلم أن ديانة الجماهير إنما يصنعها هؤلاء الدعاة لا غير.
وحين نعلم أن من يتحكم بعواطفنا الدينية هو قادر على أن يسخرنا لاخطر المهمات.
إن ما نريد أن نصل اليه هو أن زعزعة الاعتقاد لابد أن تاتي اولا من الاسئلة التي تثار من داخل تلك العقيدة ذاتها، لا من أسئلة خارجة عن مقولاتها ومنهاجها. وكل عقيدة يدين بها الانسان هي مشحونة بما لا يمكن حصره من الاسئلة الكفيلة بإعادة نظمها من جديد في كل مرحلة ومع كل جيل.
إن أهم ما تنتجه هذه الحركة هو اعتراف الكل بأن هناك حقائق موزعة بين الكل، وان الحقائق لا يمكن ان تتجسد في لوحة ثابتة محددة في أبعادها وألوانها، يحتكرها هذا الفريق أو ذاك واعتراف الكل بأن ما يتحزبون له انما هو الجغرافيا السكانية قبل العقل والقلب والبرهان، فكثير منه تتغير صورته أمام الاسئلة النابعة من داخله هو، فهو كيان تراكمي، له صيرورته التاريخية، وليس هو حقيقة فوق تاريخية.