الفلسفة واليقين

آراء 2021/10/14
...

  د. علي المرهج
كل قارئ للفلسفة يعرف أنها جهد فكري للوصول للحقيقة التي ترادف اليقين، وغاية الفلسفة الوصول لهذا اليقين، وهذا ما يُميزها، لذلك قد يكون الشك وسيلة من وسائلها أو منهجا من مناهجها لاختبار مقدار اليقين الذي نعتقد أننا نمتلكه، فالشك في المعرفة المتبناة عندنا هو بداية الطريق للوصول للحقيقة.
ولا يعني امتلاكها، لأن (اليقين) مرتبط بالإيمان، والفلسفة تتعارض وفكرة امتلاك اليقين الذي يكون متسقاً مع الإيمان، ليتحول الجهد الفلسفي من بعده المعرفي ليكون الأقرب للعقلية او الأيديولوجيا ليتحول الوصول لليقين في الفلسفة إلى نظرية في العلم أو في الدين.
كان السفسطائيون يُشكلون على فلسفة اليقين وصناعة عوالم الحقيقة خارج عالمنا الواقعي، فنجد الصراع بينهم وبين سقراط وتلامذته الافلاطونيين محتدماً حول قدرتنا على امتلاك (اليقين)، لأن المعرفة مرتبطة بالوعي الإنساني، ولا يوجد تطابق بين إنسان وآخر حول فكرة ما إلا على سبيل الاتباع الذي لا يحكمه التفكير العقلاني الحر، ولا الشعور الحسي الذي يتباين فيه إنسان مع آخر، وبحسب قول (بروتوغوراس) فيلسوف السوفسطائية الأهم "ما يبدو لي ليس كما يبدو لك، فأنا إنسان وأنت إنسان)، ووفق هذا الرأي فالنظر لليقين تحكمه نزعة ذاتية أحياناً أو عقيدية إيمانية أحياناً أخرى.
يؤكد (كارل بوبر) أن القيمة المعرفية لتبني فرض أو رؤية ما تنبني على أساس (مبدأ التفنيد) أو التكذيب، لأن المهم ليس تبني القول الشائع على أنه هو (اليقين)، بل ممارسة التفنيد على ما نعتقده من فرضيات أنها يقينية، وكل فرض يُقاوم التفنيد أو التكذيب، إنما هو الأقرب لليقين، وليس (اليقين)، وفي حال تغير الظروف السيكولوجية والاجتماعية والنظرية العلمية السائدة، قد يكون فرض ما آخر أو رؤية أخرى هي الأقرب لليقين من الفرض السابق الذي اعتقدنا أنه الأفضل.
حتى في النظرية العلمية التي تخضع لمجموع استدلالات نظرية وتجريبة، قد تصح في زمن ما بحكم المتوفر نظرياً أو علمياً للعلماء، ولكن بتغير وتطور وسائل البحث العلمي قد يتم التخلي عنها وتصبح (برادايغم) سابقا أو (أبستيم معرفي) كان للقبول به وفق الرؤى العلمية السائدة ما يُبرر أنه الأقرب لليقين.
إذن فالتأكد من صواب قضية علمية أو فلسفية أو دينية ما إنما هو مرتبط بطبيعة النظام المعرفي السائد والمهيمن في تلك المرحلة لنعتقد بأنه الموافق لليقين.
لا يفوتنا أن نعرف أن كل ادعاء امتلاك ليقين ما أو حقيقة ما إنما يكتنز في المسكوت عنه انحيازاً أيديولوجياً لهذا اليقين، كأن يكون متوافقاً مع عقائدنا المعرفية أو الدينية أو العلمية التي نظن أنها حقائق لا يمسها تغير الزمن وتحولات الواقع وتحدياته.
في خضم التسارع الذي نعيش في تبدل أنماط المعرفة والوعي الذي تفرضه الثورة المعلوماتية وحرية انتقال المعلومة في هذا (الفضاء السيبراني) الحر، لم يعد لليقين من مستقر له إلا على سبيل الحُلم والتأمل، وسيبقى كذلك ليكون دافعاً للباحثين والفلاسفة والعلماء للكشف عما هو جديد، وسيبقى الشك لصيق اليقين والصديق اللدود له، وكلما حضر اليقين تجد الشك حاضراً في عقول فلاسفة وعلماء مخالفين، ليكون التردد في اصدار حكم بمثابة العتبة للبحث عن اليقين الذي لا يعني اليوم بتعبير (برتراند رسل) و (كارل بوبر) غير (البحث عن عالم 
أفضل).
قد تصح القناعة بوجود يقين في علوم المنطق والرياضيات والهندسة، ولكنها من الصعب أن تتحقق في العلوم الاجتماعية بل وحتى بعض العلوم الطبيعية مثل الفيزياء أو البايولوجيا والكيمياء والفروع المرتبطة بهذه العلوم، لأن العلماء فيها يكشفون لنا دوماً عما هو جديد في النظرية العلمية، وحتى في التقنية التي تُجدد نفسها بحكم الحاجة على قاعدة (أن الحاجة أم الاختراع).