البيئة المجتمعيَّة وطبيعة المعرفة

آراء 2021/10/17
...

 د. صائب عبد الحميد
حين يتكلم الفلاسفة عن مصادر المعرفة، يهملون عادة مصدراً خطيراً في صياغة المعارف لدى الافراد، الا وهو البيئة الاجتماعية. لعلهم يتحدثون عما ينبغي أن يكون، لا عما هو كائن حقاً، ولعل الأخير، ما هو كائن حقا، هو من شأن علماء التربية والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي. فكيف تسهم البيئة الاجتماعية في صياغة المعارف والمفاهيم لدى ابناء المجتمع الواحد؟ هذا ما تقرأه في تلون المجتمعات، واحتفاظها دائماً بمزايا وخصائص تفصلها الواحدة عن الأخرى. فمن الواضح أن لكل مجتمع مزاياه وعاداته وتقاليده وأهدافه، التي تشكل ثقافته الخاصة التي تميزه عن غيره من المجتمعات.
فمن أين جاءت لباقة المصري، وطيبة البصري؟ من أين جاء سخاء القروي الأصيل، وشح المدني العريق؟ من أين تشرّب النوروز في دماء الإيرانيين والكرد، دون غيرهم من الأمم المجاورة لهم؟ من أين تعلّم صبيان بعض الشعوب الانحناءة تعبيراً عن التحية، بينما استهجنها صبيان شعوب أخرى؟. 
 إذا كانت هذه هي حال الناس، سائر الناس، مع العادات والطقوس الشعبية، فكيف هو شأنها مع الطقوس والشعائر الدينية؟
إن نظرة واحدة إلى الوراء، يلقيها المرء على الأجيال، كيف نشأت في أحضان الوسط الاجتماعي والأسري، وكيف تلقّت منه معرفة هذا النوع من السلوك، أو ذاك، وما يرافقه من مفاهيم، تكفي للجزم بأنها ليست أمورا أزلية غيبية بعيدة عن المجتمع وتطوراته التاريخية وتنوعاته الثقافية، في كلا نوعيه الشعبي والديني، ومن حيث طبيعة العطاء والأخذ، التعليم والتعلّم، التلقين والتلقّي، التربية والتربّي، التنشئة والنشوء، والتكوين والتكوّن.
فالأجيال تتلقّى وتلقّن قبل ان تعرف البحث والنقد والتحليل: (كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه او يمجّسانه). إنه اختصار نبوي بليغ لطبيعة نشأة وانتشار المعارف العقدية التي تميز الافراد والمجتمعات عن بعضها، هذا مع عمق وخطورة التكوين العقدي لدى الفرد والمجتمع. هذا الاختصار الدقيق يكشف عن حقيقة أنه لا فرق بين استقبال الفرد هذه المفاهيم والمعتقدات وما يصحبها من سلوك، وبين استقباله آداب التحية وألوان الطعام وأشكال الثياب والنطق واللغة. فالوسط الذي علمه النطق وطبيعة الازياء وأصناف المأكل والمشرب، هو ذاته قد علمه هذه المفاهيم والاعراف والطقوس، بلا فرق في طرق التعليم والتلقين.
وهذا هو الذي يفسّر تمدد الخرافة حتى تصبح ثقافة، اضافة إلى أن لدى الإنسان في نفسه جنوحا وميلا إلى تقبل الخرافة، والسكون اليها، حين يجد انها تعالج شيئاً من احتياجاته النفسية وتطلعاته الروحية، حين تسعفه ازاء هاجس الخوف من المجهول الكامن في لا شعوره. هذا الهاجس الذي استدعى حضور الآلهة على الأرض لدى الأمم الاولى، فحينما انتشر البشر وتكاثروا وتكاثرت أصناف العيش ومخاوفه، أحسوا بالحاجة إلى آلهة تستوطن أرضهم، أو تطل عليها من قبة سمائهم، يلجأون إليها ويحتمون بها ويستمطرون رحمتها فتحظى منهم بكل تقديس، فينسجون حولها ألوان الخرافات والاساطير، التي تتعالى على النقاش والنقد والسؤال! حتى اذا بعث الله تعالى نبياً في قومه يدعوهم إلى الواحد القهّار، أعيته هذه الخرافات، وأعجزه تمسّك الناس بها، فكم من نبي أفنى حياته داعياً بالحكمة والحجة والبرهان من دون ان يفلح في زحزحة الخرافات من الأذهان!. 
لكن انتصار نبي على خرافات قومه، لا يعني نهاية عهد الخرافة بينهم، بل ستعود الخرافة بعد رحيله مسرعة، وكأنها جزء من البيئة، ليبدأ نسج الخرافات يدور حول شخص الني نفسه، ثم شخوص الزعماء الدينيين من أصحاب القدسية الخاصة في مجتمعاتهم. لتجد الخرافة في المجتمعات البسيطة، قليلة التعليم، بيئتها الخصبة للتوسع والانتشار. 
ولا يذهب الظن الى أنها مشكلة الشعوب الشرقية وحسب، بل هي مشكلة الشعوب كلما تضاءل الوعي وتراجع العقل عن ممارسة دوره الفعال. فهذه فرنسا، وبعد عصر النهضة، والديانة المسيحية تعج بالخرافات، التي دعت كثيراً من فلاسفة اوروبا إلى محاربة الدين نفسه حين رؤوا ان الدين صار مصدرا للخرافة في أحيان كثيرة. لكن بعضهم استطاع التمييز بين الدين نفسه وبين طرائق التدين لدى الشعوب، فهذا فولتير{ت 1778} يقول «انك تقول ان الدين قد تسبب في كوارث لا حصر لها، وكان الاجدر بك ان تقول: إن الخرافات الدخيلة على الدين التي تتحكم في عالمنا البائس، هذه الخرافات والاساطير هي اقسى عدوّ لنا يصرفنا عن عبادة الله عبادة خالصة تليق به، دعنا نمقت شبح الخرافات التي ادخلت على الديانات فشوّهتها، واولئك الذين يحاربون الخرافات هم اصحاب الفضل في الجنس البشري، ان هذه الخرافات ثعبان يهزه الدين في حضنه، ويجب علينا سحق رأسه من غير ان نجرح الام التي تطعمه».
وقام «فولتير» اخيراً ببناء كنيسة قال عنها «إنها الكنيسة الوحيدة التي بنيت في اوروبا لعبادة الله». وختم «فولتير» حياته بعبارة في وصيته يقول فيها «أنا الآن على شفا الموت وأنا أعبد الله، وأحب أصدقائي، ولا أكره أعدائي، وأمقت الخرافات».