{عبد المهدي» والنهج الوظيفي في إعادة بناء الدولة

آراء 2019/03/04
...

طالب جبار الأحمد
 
 
 
سائق التاكسي الذي أوصلني إلى شارع المتنبي كان في مقتبل سن الشباب، أخبرني انه يدرس في الجامعة ويعمل سائقا في أيام التعطيل ليعين أسرته، لا يتوقع ان يتم تعيينه بعد التخرج مباشرة لكنه لا يفقد الأمل بالحصول على فرصته في المستقبل المنظور إذا تمكنت الحكومة من إعادة العافية لروح البلد.
قلت له: تبدو متفائلا؟
قال في ما يشبه الابتسام: إلى حد ما. 
- وكيف ترى الأمور في عهد الحكومة الحالية؟
- الأمور عموما أصبحت أفضل والوضع الأمني مستقر والحمد لله، المهم ان نشعر بالأمان والطمأنينة، أما العمل فالفرص متاحة خارج القطاع الحكومي لمن يريد أن يعمل حقاً.
 سررت لتفاؤل السائق ، وتمنيت لو أن ساسة البلد يقتربون من مزاج الشارع ويهتمون بتحولاته. حين وصلت شارع المتنبي وجدته يفيض بالحيوية رغم برودة الطقس الشديدة، المكان له رمزية تستلهم روح التحدي من "المتنبي"، وتعكس التناقض الراهن بين الطموح الجامح لدى الناس، وامكانات الواقع المتواضعة.
سألت الكثير من رواد الشارع عن نظرتهم للمستقبل بعد مرور أكثر من أربع شهور على ولادة حكومة الدكتور عادل عبد المهدي فكانت الإجابات في مجملها تتأرجح كرقاص الساعة بين الخوف والرجاء .
ازاء هذا المشهد، من بوسعه ان يبعث في العراقيين قوة الرجاء ويجعلهم يتجاوزون حافات الإحباط باتجاه ضفة الأمل 
والبناء؟
تلك هي مهمة القيادات السياسية، وهي ليست بالمهمة المستحيلة لكنها تحتاج إلى إرادة حازمة ورؤية سديدة وإدارة
| ناجحة.
لقد مرَت شعوب كثيرة بأوضاع صعبة ومأساوية وعانت من حروب بعضها اشرس وأكثر وحشيةً من الحروب التي تناسلت في العراق. فالشعب البريطاني، مثلاً،  كاد أن يصل إلى حافة اليأس في الحرب العالمية الثانية حينما قامت المئات من المقاتلات الألمانية بقصف لندن على مدار الساعة حتى أحالت المدينة العريقة إلى ركام وجعلتها تبدو كأطلال عهد غابر. يومها سأل أحد الصحفيين مسؤولاً بريطانياً عن الموقف الحكومي وماذا يقول للناس في تلك الأوقات العصيبة، فأجابه بالقول: لن نبالي حتى لو دمرَ الألمان كل شيء في بريطانيا، فبالإدارة الجيدة بوسعنا أن نعيد بناء كل شيء.
جال في ذهني ما جرى على البريطانيين وأنا اتابع نبرة التفاؤل والثقة في خطابات رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ويبدو لي أنه يحمل ذات الرؤية عن قدرة الإدارة الجيدة على إعادة بناء كل شيء وبعث عنقاء الأمل في وقت الازمات. إنه يطرح تصورات واقعية ويحمل رؤية جديدة لممارسة السلطة ولفن إدارة الدولة تزاوج بين التجريد والممارسة وبين الانفتاح والانضباط.
تستند هذه الرؤية لمنهج البنائية الوظيفية الذي يتيح لكل الأنساق والإمكانات المبعثرة أن تنتظم في مشروع نهضوي وتؤدي أدوارها الوظيفية التبادلية بطريقة تكاملية، وبالتالي يصبح من اليسر أن تنتقل الحكومة من الملفات إلى التفاصيل، بتعبير موجز تصبح مؤسسات الدولة تعمل على طريقة الأواني المستطرقة ..تتباين وتختلف لكن روح واحدة تسري فيها.
في ضوء الوضع الراهن للبلد أرى أن رئيس الوزراء يواجه عدة عقبات وتحديات لتحقيق رؤيته وتطبيق نهجه الوظيفي، وسأركز هنا على ثلاثة تحديات:
أولا: المناخ الديمقراطي المنفلت من ضوابطه منذ 2003، حيث لا يوفر هذا المناخ المرونة الكافية لرجل الدولة لتحويل القرار إلى إنجاز على أرض الواقع، والمفارقة تكمن في ان الأنظمة الديكتاتورية توفر مرونة أكبر على هذا الصعيد، ومن هنا نفهم سر الحنين للماضي عندما يستبد الإحباط من الواقع بمشاعر الجمهور.
هذا تحد كبير يواجه "عبد المهدي" كما واجه الذين سبقوه في تولي رئاسة الحكومة.
ثانياً: نظام المحاصصة السائد الذي يهدَد بتحويل هيئات ومؤسسات الدولة إلى جماعات مصالح، ويكرَس التشتت في أداء المؤسسات الحكومية حتى يصيبها بالشلل النصفي.
ثالثا: غياب الخطة الإعلامية المتوافقة والمتناغمة مع الرؤية الجديدة لإدارة الدولة، فالكثير من القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، تبعث – عن قصد أو غير قصد-  السأم والإحباط لدى المواطن بما تبثه من تفاهات سياسية ومهاترات وسجالات عقيمة لا تنتهي، وفي الغالب تعمل على تضخيم الأزمات، بل وحتى تحويل الأخطاء إلى أزمة وظاهرة افتراضية، ناهيك عن مكر الإعلام المضاد المتربص بالتجربة العراقية منذ 2003 حتى يومنا هذا.
لا أنكر أن واقعنا يعاني الأمريّن من إرث الاستبداد والاحتلال والحروب والفساد الإداري، لكن مهمة الإعلام في المرحلة الانتقالية تكمن في المساعدة على عبور الأزمة وتحاشي اسلوب التهويل والترويع، واسلوب السخرية المنفلتة.
والسؤال الذي يطرح نفسه راهناً، هل سينجح الدكتور عبد المهدي في تجاوز هذه التحديات وسواها ليضع البلد على سكة التقدم؟، شخصياً اتوقع النجاح لمهمته، فهو مفكر لا يؤمن بالحتميات في قضايا السياسية والاجتماع، وعهدته ينظر دوماً إلى النصف الممتلئ من الكأس، وحتى نقترب أكثر من مضمار النجاح ونخوض غماره، علينا أن لا نتسرع في إطلاق الأحكام والتقييمات وأن لا ننظر لحكومة "عبد المهدي" بعين السخط التي لا ترى سوى المساوئ.