الكاتب وحضور القارئ

آراء 2021/10/23
...

  عطية مسوح *
 
هل يفكّر الكاتب بالقارئ وهو يكتب؟
أظنّ أنّ الإجابة الصحيحة هي: نعم. 
وأظنّ أنّ الكاتب الجادّ سيضع القارئ الجادّ في ذهنه، ويتصوّر تأثّره وتفاعله مع ما سيقدّمه إليه من ثمرات فكره وإبداعه. 
ولن يتوقّع الكاتب الجادّ أن ما يكتبه سيرضي القرّاء كلّهم، فالرضا الشامل يعني أنّ الكاتب لا يتجاوز العموميّات والبديهيّات، ولا يصل إلى المسائل الخلافيّة أو الإشكاليّة. 
القارئ حاضر إذاً في ذهن الكاتب وهو يفكّر ويصوغ ويدوّن، ولكن على أيّة صورة يكون ذلك الحضور؟
إنّ حضور القارئ في ذهن الكاتب نسبيّ، يختلف بين كاتب وآخر، وبين موضوع وموضوع. 
فثمّة كاتب لا يأبه بالدائرة الواسعة من القرّاء، ويكتفي بأن يكون المتفاعلون مع كتاباته ثلّة صغيرة من المثقّفين، أو من اتّجاه فكريّ معيّن، وثمّة كاتب يسعى إلى أن تكون دائرة المهتمّين بإنتاجه الفكريّ والأدبيّ والمتفاعلين معه واسعة. هذا وجه من وجهي نسبيّة حضور القارئ في ذهن الكاتب، أمّا الوجه الثاني فهو يتعلّق بطبيعة الموضوع الذي يتناوله الكاتب. فثمّة موضوعات نخبويّة بطبيعتها، على درجة عالية من التخصّص، لا يهتمّ بها إلاّ شريحة ضيّقة من القرّاء، كما أنّ ثمّة موضوعات أدبيّة تحتاج معالجتها إلى صيغ فنّيّة مركّبة لا يستطيع التغلغل إلى أعماقها وإدراك جماليّاتها إلاّ القارئ الخبير المستند إلى ذخيرة ثقافيّة كبيرة. 
وبذلك تتحدّد نوعيّة النخبة من القرّاء الذين يفكّر بهم الكاتب وهو يكتب. 
وليس حضور القارئ في ذهن الكاتب مجرّد أمر ذاتيّ أو إراديّ، وإنّما هو أيضاً نتيجة موضوعيّة لعلاقة الكاتب بالناس. فالكاتب يعيش في مجتمعه، وله صِلاته، وتجري بينه وبين الآخرين حوارات، ويعرف كيف يفكّر المنتمون إلى شرائح مختلفة ممّن يتواصل معهم. 
وبالتالي فإنّه لا بدّ أن يتأثّر بذلك، وقد يصل به التأثّر إلى أن يتساءل – وهو يكتب – عمّا سيكون عليه ردّ فعل هذا الشخص أو ذاك، وهذه الشريحة من الناس أو تلك على ما يكتبه، وقد يتصوّر ردود كتّاب آخرين عليه. 
ويعبّر حضور القارئ في ذهن الكاتب عن حرصه على أن تكون كتاباته مؤثرة في وعي الناس، وأن تقوم بوظيفتها الاجتماعيّة المتعدّدة الوجوه، ومنها الإسهام في رفع مستوى الإحساس الجماليّ للقرّاء، وتنمية ذائقتهم. 
ويزداد تفكير الكاتب بأثر كتاباته على قرّائه إذا كان منتمياً إلى تيّار آيديولوجيّ أو سياسيّ، 
ففي هذه الحالة ينطلق من شعوره بالمسؤوليّة نحو تياّره ورغبته في تأكيد انتمائه.
وانطلاقاً من فكرة حضور القارئ في ذهن الكاتب تتحدّد العلاقة بينهما، وكذلك بين القارئ والمادّة الفكريّة أو الأدبيّة المكتوبة. فليس من الصواب أن ينظر الكاتب إلى القارئ بوصفه متلقّياً، بل لعلّ من المطلوب إعادة النظر بمصطلح (المتلقّي) الذي يطلقه الكثير من النقّاد والأدباء على القارئ، فكلمتا القارئ والمتلقّي ليستا مترادفتين، والتعمّق في دلالة كلّ منهما يوصل إلى أنّ ثمّة فرقاً جوهريّاً بينهما.
لكلمة (المتلقي) دلالة سلبيّة، فهي تنفي أثر القارئ والمجتمع في عقل الكاتب قبل أن يكتب، وتنفي تفاعل القارئ مع نتاج الكاتب بعد نشره، تجاوباً أو رفضاً أو مناقشة وحواراً وتأثّراً قد ينعكس على السلوك ويسهم في تحديد المواقف. 
أمّا كلمة (القارئ) فهي ذات دلالة إيجابيّة، تتضمّن معنى التفاعل، ولا تقتصر إيحاءاتها على تأثّر القارئ بما يقرأ بل تتجاوز ذلك إلى جعله مؤثراً، يناقش أفكار الكاتب وأسلوبه ويُحاوره، إن لم يكن جهراً فبينه وبين نفسه على الأقلّ. 
ويترك ذلك كلّه أثراً لاحقاً على عمل الكاتب بأشكال ونسب متفاوتة. وهكذا ترتسم علاقة جديدة بين الكاتب والقارئ، تنفي دور التلقّي وتقوم على 
التفاعل. 
وبهذا نستطيع أن نُعيد تطوّر الكاتب وارتقاء مستوى إبداعه، إلى عدّة عوامل، منها توسّع معارفه وتراكم تجاربه وصقل موهبته بالثقافة والخبرة، ولكنّ من ضمنها تفاعله مع القرّاء المتميّزين، هذا العامل الذي قلّما يذكره النقاد. 
أمّا سبب إهمال النقّاد هذا العامل فهو أنّهم – غالباً – لا يكترثون لحضور القارئ في ذهن الكاتب وتفاعله معه على النحو الذي ذكرناه.
ولكي لا يُفهم ما قلناه فهماً أحاديّاً، أو يُعطى صفة الإطلاق، لا بدّ أن نؤكّد أنّ حضور القارئ في ذهن الكاتب مسألة تحتاج إلى ضبط من قبل الكاتب نفسه، لأنّها ذات حدّين. 
فحضور القارئ لا يجوز أن يتحوّل إلى رقيب يردع الكاتب أو يقيّده، ولا يجوز أن يصل إلى درجة مراعاة أمزجة أو أفكارٍ فيمتنع عن طرح أفكار يقتنع بصحّتها وفائدتها. 
الكاتب الجادّ يطرح أحياناً أفكاراً مخالفة للمألوف، وهو يتوقّع أن يرفضها كثير من القرّاء الحاضرين في ذهنه من رفاقه أو محاوريه، لكنّ طرحها ضروريّ لأنّها تهزّ ثوابت يجب هزّها، وقد تثير حواراً يبدأ محدوداً ويتّسع مع الزمن، فيكون لطارحها فضل الريادة والسبق. 
إنّ تجاوز الحدود في مراعاة القارئ يؤدّي إلى خطر لا يقلّ عن إهمال القارئ، وهما يدلاّن على عدم إدراك دور الكاتب الاجتماعيّ.
 
 * كاتب وباحث من سورية