نخبوية المثقف والتحذلق الاصطلاحي

آراء 2021/10/23
...

  د. علي المرهج
يعيش الكثير من المثقفين وهم التميز عن عامة الناس، الأمر الذي يجعلهم بعيدين عن إدراك هموم المجتمع وديناميكيته وتحولاته المتسارعة في ظل العولمة والنظام الدولي الجديد.
أن يعيش بعض المثقفين في عوالمهم الخاصة، فهذا أمر يخصهم، ولكن حينما يشعرون بأنها هي العوالم الحقيقية وعلى الآخرين الاعتقاد بها، فهذا يجعل منهم وكأنهم يُغردون خارج السرب كما يُقال.
واحدة من مهمات المثقف اليوم أن يعيش الواقع ويحاول تفكيكه وفهمه، ليساعد الآخرين في فهم الحياة بطرق أفضل. 
طرق تساعدهم على فهم قيم الخير والجمال لا يتنهاضها في نفوسنا وفي حياتنا، وأن يجعل المثقف من ثقافته عدة فكرية ليفقه الناس محيطهم وما يدور حولهم، لذا أعتقد أن التعقيد في اللغة عند بعض المثقفين والتحذلق في استخدام مفاهيم غريبة، ستُزيد الفكر والحياة تعقيداً، بدلا من أن يشارك صاحبها في طرح رؤى جديدة تعيد إنتاج المعنى للحياة بيسر وسهولة لا نخبوية فيها ولا تعال على عامة الناس.
أن يعرف مثقف ما بعض المفاهيم في الفكر والفلسفة، فلا يعني أنه أفضل حال من باقي الناس العاديين وأكثرهم فهماً للحياة، فدرايته ببعض المفاهيم والتحذلق في استخدامه لدرجة التباهي لا تجعل المثقف مفكراً، ولا من يشتغل في الفقه مجتهداً، وأن يعرف بعض المفاهيم الحداثية فلا تجعل منه 
فيلسوفاً.
بمعنى: أن المجتمع يحتاج لمثقف يشاركهم همهم، ولا تعيش في (برج عاجي) فقهي أو ديني، أو فلسفي طوباوي. 
من حق المثقف، بل ومهم جداً أن يمارس النقد والتقويم لبعض ما هو سائد من ممارسات خارج مقبولية العقل السليم، والفطرة السليمة، ولكن عليه أن يعي أن بعض الممارسات العقائدية والطقوسية المرتبطة بتراث الشعوب، تكون مقبولة في اطار التعبير عنها، ومقبولة وفق التفسير (الأنثربولوجي) لها، بما يعطيهم حقهم في ممارسة العقيدة بانتظام تقتضيه طبيعة الأنظمة الديمقراطية على قاعدة احترام الحريات بما لا يحد من حريات 
الآخرين.
لا ينفع أن ننبذ المخالفين لنا لأنهم لا يفقهون حداثتنا ولا يفقهون تصورنا للطقوس والشعائر والعادات الاجتماعية.
ولا تسعف بعض المثقفين نزعاتهم الما بعد حداثية في فتح أفق التفكير للغيب والميثولوجيا، لأنها ستبقى رؤية خارج (حياة المجتمعات) بتعبير (غوستاف لوبون). 
لنجد مثقفاً يهيم باستخدام ألفاظ لا يفهمها جمهوره الذي يحلم بمشاركته التغيير والتحديث والتجديد، وهو سعيد بوصف البعض له بأنه (ما بعد حداثي)!.
بمعنى: لا ينفعك التحذلق في استخدام المفاهيم الغامضة التي لا يعرف معناها من هم قريبون منك اجتماعياً وثقافياً 
وعقائديا.
لمن يظن أنه مثقف لمجرد أنه يكتب بلغة غير مفهومة حتى عند صاحب الاختصاص الحق التحذلق في الفكر والفلسفة وفي الحداثة وتأصيلها، ولكنك ستجد مقالك أشبه برطانة لا نفع فيها، وقد يكون ضررها أكثر من نفعها.
ليس المهم أن نكتب بلغة غامضة في التراث أو الحداثة، لنظهر عضلاتنا على من لا يعرف تحولات المفهومين.
ذكر (جون كيمني) تلميذ (أينشتين) في كتابه (الفيلسوف والعلم) أن من يكتب بلغة غير مفهومة ومعقدة، فإما أنه يكتب باختصاص علمي يحتاج لعدة مناهجية ومفاهيمية، مثل من يكتب في الفيزياء او الكيمياء، وهذا من حقه. أو أنه لا يفقه شيئا حينما لا يستطيع أن يوصل أفكاره إن كتب بمجال في العلوم الإنسانية، التي غايتها المشاركة في التغيير والتجديد المجتمعي ولا نفقه من كلامه شيئا، فهو (إذن) يحتاج لإعادة تفكير في أسلوبه وتعبيره الذي اتخذه أداة للتوصيل.
ولا اعتراض في أن يكون للمثقف أسلوبه الخاص في التعبير لتوصيل أفكاره، فهذا أمر ممكن لأنه يُشكل هويته الثقافية.