اللوحات الفنية تحكي حقيقة الحروب

الصفحة الاخيرة 2021/10/30
...

عفاف مطر
يقول بابلو بيكاسو: « اللوحات أدوات الحروب ضد الوحشية والظلمات»
 
حين قاد نابليون جيشه لاحتلال ايطاليا زار الفنان التشكيلي الكلاسيكي دافيد في مرسمه ليرافقه في حملته العسكرية، ودافيد كان يعتبر نابليون بطله المثالي، ورسم له أشهر لوحة على الاطلاق، بل حتى أن نقاد الفن التشكيلي يؤكدون أن هذه اللوحة أهم من لحظة تتويج نابليون، تجسد اللوحة لحظة صعود نابليون وجيشه الى جبال الألب، وقد ركز فيها دافيد على حركة الحصان وهو جامح ومنطلق نحو أعلى الألب ونابليون ينظر الى الأمام؛ على الرغم من أن المؤرخين يؤكدون أن نابليون وجيشه اجتازوا الجبال مشياً على الأقدام، لكن دافيد أحبّ أن يؤرخ هذه اللحظة وفق نظرته ورؤيته الخاصة لجعلها أيقونة خالدة لشجاعة وجموح وبطولة نابليون فتكون رمزاً أكثر منها لوحة عادية؛ على الجهة المقابلة حاول الفنان الجريء جوريكو فضح وتفكيك الاسطورة النابليونية، فرسم الفارس المدجج بالسلاح واقفاً قرب حصانه، والحصان في هذه اللوحة واللوحة بشكل عام تشبه لوحة دافيد على جبال الألب، لكن جوركيو هذه المرة رسم الفارس (نابليون) وهو مهزوم ومكسور وينظر الى الخلف وبالفعل في عام 1814 بدأ نجم نابليون بالانحسار. ولأن الحروب هي حالة غير طبيعية، حالة وحشية تهدد الانسان جوهراً ومادةً، كان لكل حرب فنان يحتج على هذه الحالة وهذه الوحشية، وغويا أحد اهم هؤلاء الفنانين المحتجين، غويا عانى كبقية الشعب من دموية الحرب الفرنسية الاسبانية، وهذه الوحشية جسدها في لوحته الشهيرة (الاعدام) وفي هذه اللوحة لم يؤرخ لحادثة الاعدام فقط بل وثق بالصورة وحشية القاتل ورعب القتيل، ومن هذه اللوحة استوحى بيكاسو لوحته (الغيرنيكا) التي يعتبرها النقاد والباحثين حفيدة لوحة الاعدام لغويا، والغريب في اللوحتين أن كلا الرسامين غويا وبيكاسو، لم يشهدا ما رسماه، غويا لم يكن حاضراً لحظة الاعدام، وبيكاسو لم يكن في الغيرنيكا الاسبانية التي قصفها الطيران الالماني وحولها الى مجزرة وركام، وهنا عبقرية الفنان الحقيقي في استعمال خياله ليجسد الحقيقة ولو كانت هذه الحقيقة على الطرف الأخر من العالم فالحرب هي الحرب أينما كانت ووقتما تكون. الفنانة كاثي كولفيتز الالمانية والتي توفي ولدها في الحرب العالمية الأولى وحفيدها في الحرب العالمية الثانية، جسدت رفضها واحتجاجها على الحرب والقتل بلوحات خالية من منظر الدم والركام والدمار، وإنما جسدت معاناة الأمهات والأطفال في الحروب، رسمت أكثر من لوحة تجسد فيها شأن الأمهات في كل حرب وهنَّ ينبشنّ بين الجثث بحثاً عن أولادهن، كلوحة (الامهات) ولوحة (بعد المعركة) وهي من أشهر وأجمل لوحاتها ولوحة (خبز) الرائعة التي تجسد جوع الأطفال في الحرب، أما لوحتها (إمرأة لديها طفل ميت) فهي تمثل معاناتها كأم وهي تحتضن ولدها الميت مثلها مثل أي أم في أي حرب فقدت ولدها. هذه الفنانة كان للوحاتها وقع كبير على السلطة حينذاك لدرجة أنه تم اقصاء ابنها من منصبه وتم اغلاق مرسمها بالشمع الاحمر. جدار السلام في طرابلس شمال لبنان، والذي كان خط التماس بين فصيلين متناحرين، من أهم شواهد الحرب الأهلية الللبنانية، بعد انتهاء الحرب اجتمع الفنانون اللبنانيون ورسموا جدارياتهم عليه ليكون شاهداً على حرب يعتقد الكثير من اللبنانيون أنها لم تنتهِ بعد، ومن أهم التغيرات التي حصلت في الفن التشكيلي اللبناني، تحول البوسطة (الحافلة الصغيرة) والتي غنت لها فيروز (ع هدير البوسطة) من رمز للقاء العاشقين الى رمز للتهجير والنزوح حين كان اللبنانيون يهربون من بيوتهم الى الريف ويملأون البوسطة بأعداد مضاعفة، ومن ثم تحولت الى وسيلة للاغتيالات (مفخخات)، بالطبع هذا كله في اللوحات الفنية. العراق الذي ما أن يخرج من حرب حتى يدخل حرباً أخرى، انعكست تأثير هذه الحروب على الرمز البصري والجمالي في الفن التشكيلي العراقي بلا شك، الفنان التشكيلي محمود شبّر جسد في لوحته (سيارة أجرة) أثار الحرب العراقية الايرانية، إذ نرى في اللوحة سيارة أجرة باللون الأبيض والبرتقالي تحمل جنازة شهيد ملفوف بالعلم العراقي، إذ تحولت سيارات الأجرة من وسيلة لنقل الأحياء لنقل الجثامين. الفنان السوري أحمد قليج وثق الحالة العراقية والسورية معاً في معرضي رسم، الأول معرض ارتحال 1، والثاني ارتحال 2، وجسد فيه نزوح العراقيين في المناطق التي وقعت تحت سيطرة داعش، ونزوح السوريين من حمص وحلب وباقي المحافظات السورية بعد اندلاع الثورة السورية في 2011. لأن التاريخ يكتبه المنتصر، يبقى الفنان هو الأصدق في توثيق هذا التاريخ.