السياسة تعاسة كبيرة في لبنان

آراء 2021/11/04
...

  د. يقظان التقي*
{السياسة تعاسة كبيرة في لبنان}، خلاصة من كتاب التربوي الكبير منير ابو عسلي الذي يعرض لتجربة فؤاد شهاب في بناء المؤسسات، والتربية من عوالمها الرئيسة والحساسة . منذ العام 2000 دخل العالم عصرا جديدا في زمن التربية والتعليم. في وقت خرج لبنان من تكيفه، مع بيئنه بفضل المهارات التربوية والاكاديمية والثقافية، التي ينتجها للخارج وهو المعروف بالذكاء اللبناني.
اليوم لبنان خارج هذه اللحظة، خارج اليوم والفصول، خارج بيئته الداخلية والخارجية. هذا يرتبط بطبيعة الوعي الثقافي الذي اذدهر في الستينات والسبعينات والمرتبط بالضرورة بالذاكاء، وللاسف فقد لبنان هذا التراكم المتطور للمعارف بعد الحرب لجهة ما شهده من تفلت كبيرفي الوعي والتوقع والتخطيط. 
ان اخطر ما يواجهه اللبنانيون من انهيارات هو انهيار الذاكرة بشكل اساسي، وتضييق القدرة على الانتباه الى ما يجري، وان يكون البلد نهبا ليوتوبيا ثقافية اصطناعية افتقرت بعد نهاية الحرب الاهلية الى المهمات وتشكيل الافكار السياسية، قوى الدفاع الاساسية عن الكيان، واي كيان تكرره التوازنات الموجودة في المجتمع .في بلد غير موظب تماما : الدولة والمؤسسات والمجتمع والاعلام والاهل والجامعة والمدرسة والشارع يكون مفتوحا على المجهول. 
واذا كنا في العام 2000 عشية عقد ثورة صناعية ثالثة. فقد حسم اليوم بعد ازمة كورونا موضوع الثورة الصناعية الرابعة، في زمن صار يحتوي على كل شيء. مفارقة ان يفقد لبنان كل شيء!.
بلد لعشرين سنة واكثر يعيش خارج الفصول، خارج دوران الوقت الفوري، وما يجري بوتائر متسارعة على كل الصعد. مدى غير مفتوح من الرؤية في المفهوم التقليدي، وللاسف انخرطت جامعات ومؤسسات تربوية واعلامية واحزاب ونقابات في التفلت من الهدف الاساسي للنهوض والنتيجة تقويض اسس المعرفة والديمقراطية مقابل نشروشراء شراء خدمات واعلانات وخدمات للتاثير في الانتخابات وتضليل الراي العام، لا سيما في منطقة ذات انظمة توتايتارية اصلا استخدمت المعرفة والميديا الجديدة لمعاقبة شعوبها اكثر. 
{نحن لا نستطيع التكهن بالمستقبل ولكننا نستطيع اعداده} يلاحظ ايليا بريغوجين حائز نوبل، احد اهم هقول الفيزياء وعالم الكيمياء،.. هذا لاحظته النخبة اللبنانية، اذكر احدهم الراحل غسان تويني قدم وفي احتفالية كبيرة في جناح {دار النهار} في معرض الكتاب العربي، الترجمة العربية من كتاب الميدر العام السابق لليونيسكو فيديريكو ماير ونائبه جيروم بانديه: {انه عالم جديد}!. 
كان كل العالم يتطلع الى الامام، انتهت المطالعة العالمية الانسانية مع احداث 11 ايلول سبتمبر الى ماسي، وما زال العالم بعد عشرين عاما تحت خدمات مواجهة الارهاب واشكال من الحروب والانقلابات والانسحابات التعيسة والمريبة، والتعثر العميق بالنظرة الى العالم والمجتمعات.
ذهب عالم الفيزياء التوقع بنظرة ساذجة الى العالم، مع ذلك ستاتي بعد الثورة الصناعية الثالثة ثورة صناعية رابعة تحولت معها المجتمعات ايضا تحولا 
جذريا.
كان لبنان مجتمعا معقولا، بلدا صغيرا فاعلا في العولمة، نجح في مواجهة الازمات المالية، (كان الكلام عن انشاء مدينة تكنولوجية حديثة في الدامور)، ولسنوات قليلة مع مشروع رفيق الحرير الاعماري تجاوز البلد شرك الممرات الفرعية. 
حتى كنا نراعي جميعا ان تأتي مئوية لبنان الكبير، ارث البطريرك الاستقلالي الياس الحويك لتعزز الفرص: مدارس وجامعات ومستشفيات ومصارف.. وتعزيز عناصر انتاج دولة حديثة، قبل ان تتحول الاخيرة في مئويتها الى ادارة الفشل في 
كل شيء.
اخطر انواع الفشل هو الفشل الثقافي والتعليمي، لا ابتكار افكار، يعني 
اندثارا. 
مدينة من دون صحافة مستقلة من دون نقد هي مدينة ميتة، والصحافة في جوهرها كما الثقافة هي سياسة، يعني الفلسفة والعقل والنقد، فوق الدين والمذاهب والتقسيمات الانتقائية.
ما كانت موجة جهنم انية سبقتها تطورات، وانتهت جهنما لا نظير لها بايقاع الفشل السياسي ونظام المجتمعات اللبنانية. 
سقط العقد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي والاخلاقي بكل وعوده. 
صورة المدينة التي فجر ميناؤها، حكاية لها معنى الموت والعزلة، لميناء معروف تاريخيا في اغلب مناطق العالم نافذة غلى مجتمع مديني مفتوح. 
انفجار اعاد طرح معنى فكرة الحيز الديموغرافي العام حول المرفق التجاري الاول، حيث دمرت مدارس وجامعات ومستشفيات ونوادي ليليلة وبرلمان..، ما كان يعكس ايقاع لبناني منتج لفكرة في جوهرها هي حرية الناس وديمقراطيتها، ومنظومة كاملة من الفكر الليبرالي وذلك الخليط الخلاق (تجاوزا لموضوع الفساد الاداري في المرفأ)، ما يعتبره ريجيس دو المفكر بريه النموذج التعددي اللبناني الذي يمكن تعميمه نموذجا عالميا واهم محاورات القرن الواحد والعشرين من مطل المدينة بيروت ودورها عاصمة شرق اوسطية. 
حصل اللا متوقع . الا بات رث الذي ارساه الحويك ينتظر من يحميه، من يدافع عنه. اذكر قبل الانفجار وبداية الانهيار المالي والاقتصادي، كانت حول اجتماعات الاحتفالية في الاشرفية والحديث عن مواكبتها ببرنامج ضخم ومنها اصدارات كتب عن ميشال شيحا واميل البستاني واخرين وندوات وتنظيم معارض تشغل المجتمع بأسره..
فاذا البلد يقع متخبطا في محاكاة قاسية لفوضى عامة ولزيادة {امراض الروح} في المجتمع اللبناني، وخسر لبنان المساعدة من فرصة حقيقية بدأت في 
التسعينات. 
لعل صورة اليوم لطلاب لبنانيين بمئات الالاف يقفون على ابواب مدارسهم بعد انقطاع عامين بسبب تداعيات كورونا وانهيارات بنيوية افقدت العائلة اللبنانية كل مقومات الصمود، هذه الصورة تعكس الاوقات التعيسة والرعب الذي دفع 3000 الف لبناني ولبنانية من النخبة النوعبة الى مغادرة لبنان، بينهم المئات من حملة الماستر في الدراسات العليا، الذين يغامرون بالالتحاق بالجامعات الغربية وهم لا يملكون الكثير لمتابعة دراساتهم العليا، المنتج الحضاري الذي سيصب لمصلحة البلد المضيف ولسنوات 
مقبلة. 
لم يعد هناك الكثير لضمانة استمرار البلد، كان الامر مرهونا بفكرة خلاص علماني، وعناصر لم تعد مبرمجة بقيام دولة مدنية تقدمية، مع بروز نزعات ايديولوجية معززة بتوازات قوة زادت الامور تعقيدا. 
لا سيما ان احدا لا يريد ان يضطلع بمسؤولياته والشعب اللبناني في مواجهة اللاشيئ وقوى سلطوية والاغنياء . 
صارت حكاية لبنان حكاية شكسبيرية يرويها ابله ولا معنى لها. لكن ليس مستقبل لبنان السياسي وحده هو المعرض للخطر، اذ ان المستقبل الضائع الان يقف على ابواب المدارس والجامعات، في غياب اي خطط لتقديم الرعاية التربوية والصحية، عدا عن نوعية الحياة العائلية والاسرية المتهالكة التي صمدت في اقسى سنوات الحرب. 
اللبناني يضحي بكل شيئ من اجل تعليم ابنائه. هذه فرصة ما عادت متاحة، في ظل اوضاع اقتصادية متهاوية الى الحضيض.
لماذا كل هذا الاشباع للشراهة في مكان اشتهر بنخبته الثقافية وتغذي محيطه؟ فاذ به يظهر القدرة على ما يشبه الانتحار الجماعي ويفقد رصيده معنيويا 
وماديا . 
البلد الاكثر {ذكاء} يفقد السيطرة على السيطرة، مقارنة مع دول صغيرة وكبيرة بعضها كان درس على التجربة الشهابية (كوريا الجنوبية ومصر والهند..)، واخرى دخلت عصر الثورة التكنولوجية الرابعة بمواصفات دولة حقوق الانسان والديمقراطية ورفاهية الانسان وسعادته، صحته، سكنه وتعليمه وحتى شؤون الزواج والطلاق (سنغافورة..). 
الثقافة احدى اللحظات الماسوية ايضا اليوم، غابت الاقلام الحرة، اختفى النقاد، يكاد يختفي الكتاب، المسرح اخر مساحات التعبير عن الحرية ضحية الوباء وسوف يكتب مؤرخو الفترات الحرجة ماذا حل ببلد الشعراء والادباء والاروائيين والموسيقيين والمسرحيين والتشكيليين، اي ابله قرر ان يدمر نسيج مدينة، تعتبر مختبرا انسانيا للعرب وغير العرب،ولم تشفع صخرة طانيوس امام اضمحلال حضارة ومدينة عالمية مثل بيروت..
لا نتحدث عن ثقافة التخبط والارتهان والارتجال السياسي والفساد، وذلك الطغيان الملح من الفرز المذهبي والحزبي والناطقي واللبناني، الذي يكاد يكون اليوم مثل الاعمى ازاء المستقبل.. 
صحيح العالم اولى الاهمية لتشكيل حكومة تعالج الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وقضايا الافلاس 
والفساد. 
لكن ماذا عن التوازنات البنوية التحتية، ماذا عن التربية والتعليم والصحة والعقد الاجتماعي والاخلاقي واللقيميوالاثار النفسية لانهيارات متراكبة. هذا العقد انهار في سلوكيات الناس. كشفت ازمة المحروقات بعد ازمة كورونا الصحية عن ثقافة كل منا وتكوينه، وكذلك علاقتها بمشاعرنا وسلوكنا ولم تكن ثقافيا كفاية. ثقافة مجتمع ما بعد استهلاكي.
بالتاكيد مشاعر السعادة والحزن في استباحة وكذلك سلوك التدريب على الخدمة الاجتماعية التشاركية، هذا يتطلب التربية والاصغاء والاحترام. الثقافة كما يقول بول فاليري تعني {ان على الانسان ان يكون عقلا ويدا}. هذا يحتاج الى ترجمة ومسؤوليات وسلوكيات. 
هل طبيعي ما يقوله الاخصائي ايليا رشيد ان {اللبنانيين لا يعرفون التعامل الصحي مع الامراض واقتناء الادوية والعلاج في تواقيته المحددة}؟.
في معرض حديثه عن مسؤلية الصحافة والاعلام ازاء المجتمع يقول امين عام الامم المتحدة انطونيو غوتيريش: {ان الصحافة هي التي تقدم الترياق بما تقدمه من انباء وتحليات علمية مؤكدة ومدعومة بالوقائع}، وذلك بعد وصفه لطبيعة الممارسة الثقافية في التبادل المعلوماتي، والنشاط الفكري في طريق البحث عن الوعي وتحرير العقول من التخلف ضمن المسؤولية الاجتماعية لعملية الارسال والتلقي الايجابي للمعلومات وليس التزييف والتضليل بالشائعات . 
هذا يتطلب توافر البيئية الاجتماعية المناسبة في بلد اشبة ما يكون بـ{الراديو المخرب} مثل بلنان، والحياة تبدو متسارعة الخطى في عصر التكنولوجيا الرقمية، وغيرك قد يسبقك ويفرض عليك مزيدا من الفقر لمجرد التمكن منك، يجعلك سوقا مستهلكة له، بضاعة وفكرا، ومزيد من الجهل والتخلف في غياب المنهجية العلمية التي تصنع الوعي. 
الى هواجس الخوف التي اصابت اللبنانيين والانتكاسات الاقتصادية والصحية والاجتماعية ومشكلات نفسية لجهة الحجر الصحي في المنازل، كشفت الازمة امرا خطيرا وحساسا غياب الجانب النقدي والتقويمي للكثير من الناس، جعلت اللبنانيين والعالم يقفان امام حقائق لا يكفي مجرد توثيقها وطرحها على الملأ . انه التعليم . ثم التعليم، احد الحلول الخلاقة لانقاذ الاجيال الجديدة في البلد. لم يعد المجتمع اللبناني في حالة واحدة ولا الانسان عموما في حالة 
واحدة. 
المجتمعات صارت مثل كثبان الرمل، تنهار بسرعة وتتحول بسبب الراسمالية والتكنولوجيا والصناعة. الحقائق نفسها ولا تصير واقعا، يخشى ان لبنان صار موضوع ما بعد الحقيقة نهبا للصراعات الاجتماعية والسياسية والثقافية بعد تحطيم كل المبادئ والافكار التي قام عليها وكانت تصب في ما يسمى الفكر التقدمي او 
الصيروري.
 
*اعلامي واكاديمي لبناني