بين المنطق الشّرعي والفقه الجّاهلي

آراء 2021/11/06
...

  حسن عودة الماجدي  
 
 سبق وإن أوضحنا في هذا المقام علاقة الفقه الجّاهلي بالمنطق الشّرعي الإسلامي، وعندما تستعمل لفظة الفقه الجّاهلي لا تعني بالضرورة الجّاهلين عامّة، كون الجّاهليين قبائل في الغالب، وهم أهل الوبر (قبائل البدو الرّحل) لهم أعراف وأحكام تتباين بين البادية والحضر أو الاتصال بالأعاجم، وإمّا أهل المدر فمنهم من كان يعيش في قرية والحكم فيها لا يتجاوز حدود القرية، وإذا أردنا أن نتحدّث بلغة هذا العصر عن أصول التّشريع للفقه الجّاهلي وعن المنابع الّتي أمدّت الفقه المذكور بالأحكام، فقد نرى أنّها استمدّت من العرف والدّين ومن أحكام ذوي الرأي وأنّهُ أي العرف العشائري هو ماستقرّ في النّفوس وتلقّاه المحيط بالرّضى والقبول، لذلك اكتسب طابع القانون من حيث لزوم التّنفيذ والإطاعة، حتّى أنّ بعض الأعراف قد اكتسبت درجة القوانين عند الكثير من الأمم لمنطقيتها مع روح الزّمن وعدالة التّشريع، إذ أشير إلى العرف في القرآن الكريم: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجّاهلين) الأعراف آية / 199، هذا وقد ذهب بعض العلماء بأن المُراد بالعرف هو الإحسان (الرّاغب الأصفهاني ص425).
وبعد مجيء الإسلام الغى بعض العرف الجّاهلي وأقرّ ببعضٍ منهُ لعدم تعارض الأخير قواعد الدّين ولا تزال القبائل العربية والعراقية على وجه الخصوص تطبق (الفقه الجّاهلي) حتّى اليوم في فض ما يقع بين افرادها من خصومات وتتجنب مراجعة الحكومات وقوانينها الوضعية، ولكي لا يفوت القارئ الكريم في معرفة العرف العشائري، أنّه عبارة عن مجموعة من الاحكام الجّزائية الّتي تسري على الجّميع في معاقبة المسيء، حيث أنّ العقوبة قد تصل في بعض الحالات الى الطّرد والتّنكيل للأشخاص الخارجين عن طور العشيرة والتزاماتها العرفية، ولكن في كل الأحوال لا يعني هذا بقاعدة الدّين الذّهبية من حيث التّشريع، كون المُشرّع غالباً ما يفتقر إلى ماجاء به الشّارع المُقدّس، ولكن مع هذا انّ للفقه الجّاهلي مقبولية واسعة عند الكثير من النّاس بسبب إجراءات المنظومات القضائية المُملّة بالتّحقيق المُترهّل أصلاً وشهادة الشّهود المُتباينة في أغلب الحالات، الّتي تتطلب التّعمق بخلفيات القضية ومصاحبة كشف الدّلالة فيها، وبعد هذا وذاك يصدر الحكم الّذي تعترضه عقبات أخرى كالاستئناف والتّمييز والطّعن وكذلك رتابة أجراءات دوائر التّنفيذ في حالة إستحصال الدّيون وربّما يتعدّى التأخير لأكثر من سنة ممّا يجعل النّاس تسأم الولوج إلى دوائر الدّولة، بينما في ساحة العرف العشائري يتم فض أعقد النّزاعات بجلسة شاي واحدة، وهذا الإيجاب يحسب للفقه الجّاهلي، مع أنّه كما ذكرنا لم يكن بديلاً للثابت الشّرعي السّماوي، وإمّا بصدد سنّة الجّاهلين هي طريقتهم في الحياة وما ورثوه عن آبائهم من عرف وأحكام وما قرّروا السّير على قوانين القبيلة في تنظيم الحقوق، وما يقرّره عقلاؤهم من قرارات لا تغيّر ولاتبّدل إلّا للظّرورة وبقرار يصدره أصحاب العقل والبصيرة والرأي والسّن فيها، إذ لا يزال العمل بها حتّى اليوم ويقال لها (السّانية) في إصطلاح قبائل أهل العراق، حيث ورد الكثير في أحكام الجّاهلية مواد شرّعها أُناس محترمون عند قومهم، حيث نصّ أهل الأخبار عليها كما نصّوا على أسماء قائليها بأنّ الأحكام المذكورة أحكاماً قد أقرّها وثبّتها الإسلام، ومن تلك حكمهم في (الخنثى) وهو حكم، حكم به (عامر بن الظّرب العدواني) (وذرب بن حوط بن عبدالله بن أبي حارثة بن حي الطائي)، حيث أقرّ الإٍسلام حكمهما (المحبر ص236)، وكذلك حكم (ذي المجاسد) (هو عامر بن جثم بن غنم بن حبيب) في توريث البنات.
فقد كانت العرب مصفقةٍ على توريث البنين دون البنات، فورّث ذو المجاسد بقرارٍ منه أنّ للذّكر مثلُ حظ الأُنثيين وهذا قد وافق حكمه حكم الإسلام في الثّابت الشّرعي (المحبر ص 236).