هل تستطيع وسائل الإعلام اختراع الوقائع؟

آراء 2021/11/06
...

  رزاق عداي
 
قد يظن البعض ان كل المجتمعات الديمقراطية، التي تظهر وكأنها تتمتع بحرية وافرة، ان وسائل اعلامها تكون حيادية تامة، ولا تهيمن عليها نوازع طبقة ما او مصالح جهة معينة، ولا تلعب هذه الوسائل دور التلقين حتى من زاوية خفية، فهل يرقى هذا التلقين الى لعب دور ابعد في توجيه العقول وصناعتها من جديد؟ هذا سؤال يفرض نفسه بقوة في واقع مطوق بالاعلام، ويعيش في غمرته على مدار اليوم 
والساعة،
تشير الدلائل التجريبية على مدى القرن العشرين على الاقل والذي تخللته احداث جسام ومنعطفات تاريخية عظمى، الى ان وسائل الاعلام الاخبارية في وسعها توجيه اهتمامنا الى بعض القضايا وتصوغ افكارنا عنها، على عكس النظريات التي التي تعتقد ان هذه الصياغات والتحويرات الاخبارية تظل تهتم في حدودها الحيادية، وفي اثرها الادنى في التأثير، وقد 
كشفت احدى الدراسات ان المشاركين الذين واجهوا تيارا مستمرا من الاخبار عن شؤون معينة مشكلتين لهما عواقب وخيمة اكثر من غيرها، وكشفت دراسات اخرى عن التقلب في اهتمام السكان بمشكلات مثل الحقوق المدنية والجريمة والتضخم عكس انواعاَ متباينة من الاهتمام الموحه لها من وسائل الاعلام الرئيسية.
ان المنظرين الذين يدعون ان وسائل الاعلام لا تمتلك الا تأثيرا محدودا اقناع محاوريهم ان هذه الوسائل تكتفي بنقل الحقائق دون تحويرها بالشكل الذي يفيد طرفا معينا دون 
آخر.
ان القدر الكبير من المعلومات والافكار التي نتلقاها يترشح من خلال ميولنا العقلية الراسخة، فان هذه الميول ليست في اغلب الاحيان جزءاَ من بصيرتنا الواعية، بل من تأملنا الحسي غير المدروس، الذي يعيدنا، الى نقطة اولى، فأن انظمتنا الخاصة بالنزاعات قد تكون مشتركة اشتراكا فعالا فيها، خاصة انها تشكلت بفعل تعرض طويل لما تفرزه الدعاية 
والاعلام.
فعلى سبيل المثال، صورت الولايات المتحدة شاه ايران الاخير على مدى خمسة وعشرين سنة على النحو الذي ارادته تماما وزارة الخارجية وشركات النفط الكبرى: حاكم لطيف وباني ايران الحديثة، بدلا من الحاكم المستبد السارق، وكان الشاه يرحب به بوصفه حليف الغرب وصور مع الرؤساء والشيوخ، واجريت له اللقاءات على التلفزيون الاميركي، وكانت التقارير والتحقيقات تذاع عنه وعن اسرته، فتجعل منه شخصية عامة محبوبة تماما، دون اشارة او كلمة واحدة عن آلاف الرجال والنساء والاطفال والعمال والفلاحين الذين عذبهم واغتالهم هذا الشخص الجذاب الحسن 
المظهر.
اما عندما استولى الطلاب الايرانيون على سفارة الولايات المتحدة سنة 1979 واخذوا الرهان الاميركيين، كان احد طلباتهم الى الشعب
الاميركي ان تنشر وسائل الاعلام الامريكية فظائع الشاه علنا، فقدم الى الشعب الاميركي شيء آخر من الحقيقة مدة قصيرة من الزمن، مقترناَ بشهادات عدد من الاشخاص الذين عانوا اضطهادا يصعب وصفه، فسمع عن اباء واطفال عذبوا امام بعضهم بعضاَ، واخر قطعت ذراعه امام والده، اثار صدمة في نفوس الناس، وفهم اعضاء في الكونغرس ان وسائل الاعلام صممت تفكيرهم السابق بصور تصيب اهدافا 
معينة.
 من هذا يظهر ان المؤسسات الاعلامية حتى في المجتمعات الديمقراطية العتيدة التي تهيمن عليها الاعمال والمصالح، لا بد ان اهدافها تكون مختفية في تقنية وواجهات اعلامية تبدو تامة الحياد، ولكنها في النهاية تصب نحو اتجاه عام مخطط له.