إعمار أورنمو والإعمار الآن

آراء 2021/11/07
...

 باسم محمد حبيب
 في حدود عام 2113 ق.م، أي قبل أكثر من أربعة آلاف سنة من الآن، تولى الملك أور نمو حكم مدينة أور السومرية (أطلالها تسمى تل المقير على بعد 25 كيلو مترا إلى الجنوب من الناصرية)، إذ تولى الحكم والبلاد تعاني من دمار هائل وظروف قاسية بسبب الثورة العارمة التي قام بها السومريون ضد الحكم الكوتي الأجنبي.
فكان عليه أن يقوم بحملة إصلاحات وإعمار كبرى لإعادة البلاد إلى مكانتها السابقة كمركز للحضارة البشرية التي كان للسومرين قصب السبق في إنشائها، فكانت أولى أعماله إعادة الوحدة السياسية للبلاد، وذلك بتوحيده المدن السومرية في دولة واحدة عاصمتها مدينة أور، لكن منجزاته لم تقتصر على هذا الجانب فقط بل شملت أيضا الجوانب الأخرى الدينية والاقتصادية والعمرانية، وذلك لإعادة إعمار البلاد بعد طرد الكوتيين منها، إذ كان هؤلاء وبحسب النصوص المسمارية متخلفين حضاريا، ما جعل عجلة الإبداع والبناء تتوقف في عهدهم الذي دام مئة سنة، أي إلى حين طردهم من البلاد، ثم تلا ذلك إجراؤه إصلاحات في الجانب الديني، لمنع أي توترات قد تنشب بسبب المعتقدات الدينية المختلفة للناس، أما في المجال الاقتصادي فكان من أبرز أعماله: تأسيس مزارع كبيرة يعمل بها الفقراء ومتوسطو الحال تشرف عليها الدولة، تشتمل على: بساتين، وحقول، وبحيرات لتربية الأسماك، وحظائر لتربية الحيوانات المختلفة، خاصة الأبقار والأغنام، فضلا عن ورش لعمل كل ما يحتاجه الناس من ملابس وأواني وأدوات مختلفة، أما في الجانب العمراني، فقد قام أورنمو ببناء وترميم المعابد والزقورات في معظم المدن السومرية في واحدة من أكبر حملات الإعمار التي شهدها التاريخ، إذ اتسمت الأبنية التي بناها بالمتانة والضخامة، حتى أن بعضها بقي قائما إلى الآن، كما في زقورة أور الشهيرة التي ربما أكملت في عهد ابنه شولكي، الذي أشرت في مقالة سابقة لي إلى أنه ربما يكون أعظم ملوك بلاد الرافدين قاطبة، وأحد أعظم الملوك في العالم، وذلك لكم الانجازات التي حققها في عهده الذي دام نصف قرن، ومن الزقورات التي بناها أو أعاد بنائها أورنمو: زقورة أوروك (الوركاء)، وهي زقورة تضاهي في حجمها زقورة أور، عدا كونها مغطاة بالأنقاض ووجود بعض الأضرار في هيكلها، وبدورنا ندعو هيأة الآثار العراقية إلى ترميمها وتأهيلها من جديد لتكون من المعالم التي تستقطب السياح والزوار.
لقد حكم الملك أورنمو مدة 18 سنة، لأن وفاته كانت في عام 2095 ق.م، أي المدة نفسها تقريبا للحكومات العراقية من عام 2003 وإلى الآن، لكن لو قارنا منجزات أورنمو بمنجزات هذه الحكومات جميعا فضلا عن الحكومات التي سبقتها، لوجدنا الفارق شاسعا جدا، وليس أدل على ذلك من هيكل زقورة أور الذي مازال على وضعه الجيد على الرغم من مرور 4000 آلاف سنة على بنائه، ما يعني أن البناء كان يتم بقدر عال من الحرص والدقة، مع متابعة مستمرة من الجهات العليا، والشيء نفسه يصح على البنايات الأخرى التي وإن فقدت بعضا من أجزائها بفعل عاملي الزمن والتعرية، إلا أن بقاياها تشير إلى ضخامة تلك الأبنية وروعتها ودقتها، على الضد من العمائر والمشاريع التي أقامتها حكوماتنا المعاصرة، إذ نجد أغلبها في وضع مزر وهش، على الرغم من حداثة بنائها، ومن ثم لا يمكن أن تقارن بتلك الأبنية القديمة، ولعل وجود ما يقارب الثمانية آلاف مشروع وهمي وغير مكتمل هو خير دليل على الفارق في مستوى الأداء بين حكومات العراق قبل 4000 سنة والحكومات في هذا العصر، والشيء نفسه يصح على الجوانب الأخرى: الحكم المركزي، والنظام الاقتصادي المنظم والمتنوع، والإداري الدقيق والصارم، وعلوية قانون الدولة لمملكة أور، مقابل الحكم اللامركزي وغير المستقر، والنظام الاقتصادي الإحادي القطاع والإداري والهزيل، وضعف سلطة القانون في العراق الحالي.