نحو أنثروبولوجيا عراقيَّة.. سؤال الهويَّة والتاريخ والاسترداد

آراء 2021/11/08
...

 د. يحيى حسين زامل
 
تصطرع العلوم الإنسانية في ما بينها (الفلسفة، الدين، اللسانيات، الاجتماع، الأنثروبولوجيا، علم النفس، التاريخ، الجغرافية) من جهة الأجدر والأصلح والقادر على تحليل الظواهر الإنسانية والاجتماعية والثقافية بشكل سليم وموضوعي ومجد، واثبات وجوده في الساحة العراقية من خلال الدراسات والبحوث والأنشطة الأخرى (صراع داخلي)، ومن ناحية أخرى تواصل صراعها مع سلطة الأنظمة والأنساق المعرفية والسياسية، فهي بين كر وفر وصعود وأفول، نتيجة التقارب والتباعد من هذه السلطات، والتجارب تثبت أن عدة من النظريات والاتجاهات انتشرت نتيجة تقاربها مع السلطة على الرغم من ضعفها، والكثير من النظريات والمذاهب الفكرية والمعرفية انقرضت واختفت من الوجود نتيجة «التابو»، أو المنع من قبل هذه السلطات الحاكمة على الرغم من قوتها (صراع خارجي).
 
الأنثروبولوجيا العراقية.. إلى أين؟
وفي ما يخص «الأنثروبولوجيا العراقية» يجري الحديث عن هذا التخصص، والحديث ذو شجون، فبين ظهور وخمول، وصعود وأفول، هناك مكتسبات حصلت عليها، وظهرت بشكل معتد به في عقود ماضية من خلال الرواد، من أمثال البروفيسور «شاكر مصطفى سليم» والبروفيسور «قيس نعمة النوري»، والدكتور «علاء الدين جاسم البياتي»، والدكتور «خالد الجابري»، والدكتور «سعدي فيضي» و الدكتور «عبد علي سلمان» و الدكتور «مجيد حميد عارف»، والقائمة طويلة تمتد إلى أيامنا هذه، بينما مازال هذا التخصص مغموراً والدليل على ذلك أن أكثر الناس لا تعرفه، فضلاً عن المؤسسات الحكومية والمدنية، ويجري السؤال إلى أين تمضي الأنثروبولوجيا في العراق، وما مستقبلها؟.
 
نحو أنثروبولوجيا عراقيَّة
وفي خضم هذه الصراعات يجري السؤال الأهم: هل توجد أنثروبولوجيا عراقية لها هويتها وسماتها؟، وفي الجواب عن ذلك يمكن أن يثير ذلك تحسس البعض من هذا التحديد - أنثروبولوجيا عراقية-، ولا أدري لِمَ يتحسس البعض من التفرّع والتخصص، وكأنّ العلم واحد في كل الكون، وكلما دعا أحد المتخصصين أو الباحثين بتخصيص احد العلوم على هوية معينة انبرى البعض بالاعتراض، وكان الأجدر بنا أن نعترض على العلوم الإنسانية التي حُسبت للغرب وتسمت بأسمائها من التأسيس إلى عصر ما بعد الحداثة، وإلى وقت قريب وبالتحديد في ندوة استذكار عالم الاجتماع البروفيسور «متعب مناف السامرائي» في الجامعة المستنصرية، طرح أحد الباحثين فكرة إنشاء علم اجتماع عراقي فاعترض البعض على ذلك، وأن العلم لا يحدد ببلد، ولا أدري ما وجه التسمية لبعض المؤلفات بعلم الاجتماع الغربي أو الأميركي أو الفرنسي او البريطاني، فإذا جاز لهم ذلك فلم لا يجوز لغيرهم.
لقد كانت هناك دعوات سابقة لرائد علم الاجتماع  البروفيسور «علي الوردي» في كتابه  «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي» وتركيزه على المجتمع العراقي بدل المجتمع العربي عامة، وبسبب ذلك تعرض للنقد، ورد عليهم بقوله: إني أخالفهم في هذا الرأي مخالفة كبيرة، وأود أن أسالهم هنا: كيف يمكن دراسة المجتمع الكبير من غير دراسة الأجزاء الصغيرة منه كل على حدة، فالمعروف في الطريقة الاستقرائية أنها تبدأ بدراسة الجزئيات لكي تتوصل منها إلى فهم الكليات العامة (ص 8)، وقد أيّد هذه الدعوة «سلام الشماع» في كتابه «خفايا من حياة علي الوردي»، ولذلك بقول الوردي: (إننا بحاجة إلى علم اجتماع خاص بنا يستمد إطاره من تراثنا الاجتماعي، ويستند على دراسة واقعنا) (ص86)، وهذا الهدف بالنهاية سيكوّن لنا علم اجتماع عراقيا جنباً إلى جنب مع العلوم الاجتماعية الأخرى، وكذلك دعوة الدكتور «معن خليل عمر» في كتابه «نحو علم اجتماع عربي»، والذي سرد فيه التراث العربي لعلم الاجتماع وأنه لا يقل شأناً عن غيره من التراثات، ويقول: وفي هذا الكتاب لا أحاول أن أدعو إلى تأسيس علم اجتماع اقليمي قومي (عربي) مفصول عن علم الاجتماع، ولا أدعو إلى ريادة الكتّاب العرب وحدهم في هذا العلم، بل قدمت كتابات وافكار ودراسات تناولها كتّاب عرب قدامى بعد أن جمعتها وبوّبتها تحت فهرسة (سوسيولوجية معاصرة).. (ص6)، وسواء دعا رواد علم الاجتماع في العراق أو لم يدعوا، فإن علم الاجتماع في النهاية ستكون له هوية تميزه، نتيجة البحوث والدراسات والنشاطات على مدى هذه العقود من تأسيسه، يعني أنها مسألة وقت، وهذا الاستنتاج ينعكس على الأنثروبولوجيا في العراق، وعاجلاً أو آجلاً ستكون لها هوية مكتملة لها هويتها المائزة، وخصائصها المنفردة، وروادها 
المميزون.
 
الهوية.. والتاريخ.. والاسترداد
إنّ الحقيقة التي لا يمكن انكارها أن للأنثروبولوجيا العراقية هوية خاصة تميزها عن الأنثروبولوجيات الأخرى، فقد تم تأسيسها في حدود منتصف الخمسينيات من قبل الأنثروبولوجي العراقي «شاكر مصطفى سليم» ورفدها بأهم المصادر التي تجعل لها الاستمرار، ولا سيّما قاموسه الشهير «قاموس الأنثروبولوجيا»، فضلاً عن ترجمات مهمة لمؤلفين من قبيل «كلايد كلاكهون» و»لوسي مير»، وغيرها، وهو من رواد الجيل الأول الذي استعمل الاتجاه «البنائي الوظيفي»، في دراسته، وكذلك مهد لـ «الاتجاه النقدي»، في كتاباته اللاحقة عندما نشر مقالاته في صحيفة «الحرية»، ويُعدّ البروفيسور «قيس النوري» من الجيل الثاني، ومؤلفاته التي قاربت الثلاثين كتاباً في مختلف المواضيع في مدارسها وروادها ومظاهرها وأنساقها العديدة، والذي يمكن عدّه من «الاتجاه الثقافي» على كُثر ما كتب عن الثقافة ومقترباتها، وأيضاً يُعدّ من الجيل الثاني البروفيسور «علاء الدين البياتي» الذي طالما صرّح في محاضراته بأنه من رواد  «البنائية الوظيفية» في دراساته الحقلية عن «الراشدية» و»شثاثة»، فضلاً عن الدكتور «خالد الجابري»، الذي قدم ما قدم للأنثروبولوجيا العراقية ما جعلها تستمر وتتواصل في دراساتها الحقلية التي اهتمت أول الأمر بالقرى والمناطق المهمشة، من قبيل (الجبايش، والراشدية، وشثاثة، والشرش، والبو جواري، والبو حشمة، والكرطان، والصيـﮔل، وغيرها)، ثم انتقالها لدراسة المواضيع من قبيل (الأديان، والطقوس، والقرابين، والرموز، والتغير الثقافي، والتغير الاجتماعي، والسحر، والطب الشعبي، والأمثال الشعبية، والاستهلاك، والعولمة، والاتصال، واللهجة، وغيرها)، وكل هذا يجعل لها هوية راكزة ومؤثرة تميزها عن غيرها، وتاريخ ثري يمكن استرداده في أي وقت، لتكون لها في النهاية هوية خاصة تكون امتداداً لهذه الدراسات والبحوث بشكل خالص.