منحوتات بغداد بين الفن والسياسة

ثقافة 2021/11/14
...

  د. عقيل مهدي يوسف
باختيارها لهذا العنوان تذهب الكاتبة، والمهندسة المعمارية ميسون الدملوجي الى ترصين العلاقة بين الحضارات، السومرية والبابلية والآشورية والعباسية وصولا الى الحاضر، في ترسيخ (الهوية) الوطنية الجامعة بإطار تعددي في عراق اليوم، حسب مقدمة الكاتبة
 
بعد أن ورثت الحكومة الوطنية عن الفترة العثمانية، مجتمعات مدنية وريفية، تعددية، وموروثات تاريخية مختلفة في الفن والشعر والعمارة، وطب وبناء الدولة بعد ثورة (1958) وما جاء بعدها من تقلبات سياسية، وحرب وحصار واحتلال
(2003).
واليوم يواجه العراق عن (بؤرة) تستقطب التعددية الثقافية لمكونات الشعب. 
أظهرت الانتفاضة الشعبية التي انطلقت عام 2019 طابعاً خاصاً بالهوية الوطنية بعد انسحاق داعش وسوء ادارة الدولة، وفساد المؤسسات (ص3).
اختارت الكاتبة دور الموروث الثقافي والفنون والعمارة وتخطيط المدن بوصفها ركائز اصيلة للهوية الوطنية، وليس ضرباً من (النهلستية) لماضٍ خيالي.
الشباب اختار للتظاهر موقع (نصب الحرية) لجواد سليم يطرحون هناك مطالبهم، بوصفه رمزاً وطنياً بمثل: ساحة الحبوبي في الناصرية ومجسر ثورة العشرين في النجف.
آثرت الكاتبة ان تقوم بتحليل النصب والتماثيل في شوارع بغداد في ظل اوضاع سياسية مزلزلة في سياق تاريخي، وفني (يخص رمزية نصب الحرية ما بين الرافدين في القدم، والعراق الحديث تجد مكونات الشعب من اكراد وتركمان وآراميين وديانات مسيحية ومسلمة ويزيدية وصابئة بعد جلاء بريطانيا، تأسست الملكية عام (1921) واتخذت العمارة في تلك الحقبة، طرزاً معمارية سائدة في بريطانيا، لكن المعماري (ادوين لاتن) كيفها مع الظروف المناخية والمواد المحلية في العراق مثل: جامعة آل البيت، في الاعظمية، (للمعماريين ولسن ومسين) والمحطة العالمية في الكرخ بطراز (Art Deco). 
البرلمان خصص (1950) قانون مجلس الاعمار (70%) من عائدات النفط لمشاريع التنمية، وستراتيجية، لبناء مبانٍ حكومية وسدود مائية وجسور ومتاحف واسكانية، تطلعاً لحداثة (تربط الماضي بالمستقبل)، من بين المشاريع المعمارية (دار الاوبرا) تصميم (فرانك لويد رايت) التي لم تنفذ.
وصالة الالعاب الداخلية (لكوربوزيه) وبوابة جامعة بغداد (والتر غروبيوس)، ولتجاوز البطالة المقنعة كانت الانظار تتجه الى دعم قطاعي الزراعة والصناعة، في حقبة احتدم فيها صراع المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
ومنحت كل من فرنسا والمانيا بعد ان احتكرت شركات اميركية وبريطانية المشاريع العمرانية، ان يكون لها اسهام في برنامج الاعمار، في عام (1957) انجز المجلس جسراً بين الاعظمية والكاظمية واراد (فرانك لويد رايت) الافادة من اجواء (ألف ليلية وليلة) دمجها مع رؤية حداثوية في معماره، مقيداً رمزيات تاريخية ودينية مثل اتجاه القبلة في مكة المكرمة، وسيف النبي محمد (ص) وتمثال هارون الرشيد والزقورة، والثور المجنح وبغداد المدورة بمثل ما فعل، حين صمم (متحف كوكنهايم) في نيويورك، متأثراً بملوية سامراء كما
صرَّح هو. 
وتم انجاز جامعة بغداد (غروبيوس) ووزارة التخطيط (بونتي) وقاعة الالعاب الداخلية،(كوربوزيه) ومبنى مدينة الطب في بغداد. 
 
منحوتات ومعاصرة
بعد تموز وثورة عام (1958)، أنشأ قسم العمارة في كلية الهندسة برئاسة الدكتور محمد مكية عام (1959)، متطلعاً الى مواكبة تطورات العصر. 
يذكر الدكتور خالد السلطاني ان تماثيل (الملك فيصل) و(السعدون) و(مود) تمثل ركائز النظام الملكي والعقود البريطانية وقوة العشائر، والتي قام بنحتها الايطالي (كانونيكا) كما كلف النحات الروسي (اسكندر) بنحت نافورة من الحجر في شارع الشيخ عمر التي باتت منصة لشعارات طلابية وعمالية ومناسبة استثمرها الجواهري في قصيدته المدوية (يوم الشهيد تحية وسلام).
طلب الجادرجي من جواد سليم ان يصمم الجدارية من اليمين الى اليسار، جواد اكتسب خبرته بدراسته للفن في (باريس) و(لندن)، بوعي حداثي ورموز رافدينية واسلامية، وتم انجاز الجدارية.
احتوت الجدارية على اربعة عشرة جزءا واحتفي بها رسمياً عام (1961).
وتقوم الكاتبة بتحليل الجدارية بدقة في دلالات مكوناتها لكل جزء منها، ولتكاملها العام، وتم الحفاظ على نصب جواد بعد الانقلابات العسكرية والسياسية والحروب والحصار والاحتلال، والاجتثاث، (ص48).
حتى ان الناطق الرسمي للحكومة العراقية (الصحاف) اتخذ من النصب منصته لقراءة البيانات. 
تُحيل الكاتبة القارئ الى ساحة النسور، والى نصب ميران السعدي ونصب انقاذ الحضارة لمحمد غني حكمت، وللأسف ادت التقلبات السياسية الى ازالة الكثير من النصب والتماثيل في العراق، وكان فائق حسن قد أنجز جدارية من الموازئيك، في ساحة الطيران، وبقي لنا نصب (الأم) لخالد الرحال، وثبتت الكاتبة صوراً تخص نصب ثورة تموز لميران السعدي عام (1963) ونصب الجندي المجهول للمعمار رفعت الجادرجي الذي أزيل عام (1982)، وصور المتنبي والرصافي، وحمورابي، والكاظمي، وكهرمانة والجنية والصياد، وهي منحوتات للفنان محمد غني حكمت، الذي اثرى المشهد التشكيلي- النحتي، بكثير من الروائع الفنية الاخرى، مثل شهرزاد وشهريار، وبساط الريح، كذلك نصب المنصور لخالد الرحال وابن فرناس لبدري السامرائي ونصب النسور والجرار لميران السعدي، وجداريات غازي السعودي ونصب وتماثيل تخص صدام وعدنان خير الله وقادة عسكريين، قد تمت إزالتها بعد التغيير.
ونصب الشهيد لإسماعيل الترك والمعماري سامان كمال، والمعمارية وجدان نعمان ودونت اشعار تتغنى بالشهيد من خط (اياد الحسيني) ونصب الصرخة لعلاء بشير، ونصب العلامة (عبد الجبار النعيمي) والناجين (باسم حمو) والعراق (عباس غريب) وتمثال قاسم (ايهاب احمد) ويتوج نصبه السابقة محمد غني حكمت، (انقاذ الحضارة) في الزوراء و(الفانوس السحري) و(اشعار بغداد) و(سيدة بغداد) عام (2021).
ومازالت شواخص من اعمال (سمبوزيوم بغداد الاول للنحت)، قائمة في حدائق ابي نؤاس، حرصت الكاتبة على توثيقها، وتتابعها (التاريخي) بعد الاحتلال.
ومن بينها نصب ساحة المتحف (عباس غريب)، وتمثال المتنبي (سعد الربيعي) في شارع المتنبي.
وتؤخر التعريف بالنصب وتعتبره (الدملوجي) عنصراً معرفيا، يعنى بالذاكرة ليقدم اعلانا ورسالة الى المجتمع، ببعد سياسي واجتماعي وروحاني ليبرز صورة من الماضي والحاضر، لتثقيف المجتمع، وتحذيره من مخاطر تهدد وجوده واستقلاله.
وترى الكاتبة دور رمزية التاريخ في الصراع وصناعة السلام في مجتمع حافل بالتعددية العرقية والدينية، قد ينبثق منه اقتتال، وصراعات دموية، مما يوجب الاهتداء (الستراتيجي) الثقافي، والفني الى تأكيد رمزيات جامعة للشعب، والابتعاد عما يفرقه باختيار هوية وطنية تعزز السلم وتصد الحروب والفوضى، وتقوض ذرائعها.
والتواصل على اساس المصالح المشتركة والاعراف السائدة (ص182).
وتخلص الباحثة الى ان نصب الشهيد صرح فني مميز ترك بصمة في سماء بغداد، وفي نفوس اهلها، الجامعة بين الفخامة والبذخ وقيم الجمال، وروحانية الشهيد من اجل الوطن. 
جاء هذا الكتاب بتحليل منهجي موضوعي، يختزل تاريخاً شاسعاً منذ بدء الحضارة الرافدينية، حتى يومنا الحاضر، اذ باتت منحوتات بغداد وفن العمارة بأشكالها الهندسية، وتكويناتها السياقية، عند المدينة التي يوظفها الانسان بقصدية، بألوانها وجدرانها وكتلها، وسطوحها، بمنظومة رؤى الفنان وكينونته الجمالية، التي تحول المعنى والرمز الى عمل مادي- فني، إبداعي في نظرة جمعية الى الوطن والعالم والانسانية بما تنجزه العملية التصميمية، من ابعاد وظيفية (نفعية)، وانشائية بنائية وتفاعل جمالي مع البيئة بآفاق رحبة، يحفز على المواطنة وحب الوطن، على ارضية واقع يتطلع الى الحركة والسعادة 
والاستقلال. 
أنجز الكتاب بمقاربة (Approche) متميزة في سيميائيات علاماتها وصورها في (طوبولوجية) العمل الفني، وهويته، ومخيلته الابداعية، وببلاغة جمالية، تحفز التأويل الرموز، الذاكرة، والتفاعل مع المحيط، لتفعيل المجال الحضري ثقافياً واجتماعياً.