إنسان بلا ملامح

ثقافة 2021/11/16
...

ياسين النصير
تواجهك يوميا شخصيات ما أن تراها حتى تنساها، والقلة منهم من يبقى في الذاكرة، منهم شخصية المتسول التي التقطها الرسام فائق حسن في الشارع، وكانت ثيمة تشكيلية، ولما عاد في اليوم الثاني ليرسمه، بعد ان أعطاه دينارين، وجده شخصية أخرى مختلفة، نظيفة وحالقة، فلم يرسمه، لأنه لم يجدها كما هي، وكأنما النظافة أفسدت الرؤية. هذا النوع من الشخصيات، كتب عنه عبد الملك نوري وسماه "الرجل الصغير" وهي ثيمة مأخوذة من شخصيات غوغول برأي النقد السوفيتي، لكننا نراها كثيرا، حيث نقلها يوسف العاني من شعبيتها الثانوية، وجعلها بطلا في عدد من مسرحياته الواقعية الانتقادية: شخصية أبو الجرواية السكير، الفراش، المريض في العيادة، المغني في العزلة، المهمش، والثانوي، والعاطل، والمهمل، والمتروك، حتى أن مقاهي عديدة وجدت لتحتوي هؤلاء، جلساء من دون أن يشربوا، فقط إنهم كائنات وجدت لتنقل ما يقوله الراديو عن أخبار الحرب العالمية الثانية كما في رواية النخلة والجيران، شخصيات تحيا من دون ان يكون لها شرط وجود. إنها "لا أحد". أو (نو بدي)، كما يقال باللغة الإنجليزية.
 يتحدث فرويد عن الإنسان الذي يقارب أن يكون إلها ولكنه لا يحظى بالسعادة. وجزء من هذه الشخصيات هي : الـ "لا أحد"، أو الـ "نيمو" أو كل إنسان" شخصية تخلو من المسؤولية ربما تكون جزءًا من هوية البرجوازي الصغير الذي يفجر بطولة جديدة ضخمة وجماعية على مثال النمل "فالإنسان بلا مزايا كما يقول دو سارتو" بطل شائع، فرد، مبعثر، سائر لا معدود، البطل المجهول، يأتي من بعيد إنه همس المجتمعات في كل زمن يستدرك النصوص فهو لا ينتظرها بل يتهكم منها" وهذه الشخصية مبتدعها روبير موزيل كشخصية تخلو من المسؤوليات الذاتية (ليس خطأه) إنه الحكيم والمجنون و" كل شخص" أو" لا أحد". هذا الشخص بلا "مزايا " يوهم أن لديه كفاءة، لكنه يتخلى عن الكفاءة نتيجة لتوسع سلطته وتفاقمها وتبعا للطلب الاجتماعي أو جراء مسؤوليات سياسية" (نعم ليس خطأه) إنه (خطأ الآخر). تفاجأ أن شخصيات بلا مزايا تجلس مع شخصيات اختارها المؤلف وكأننا في برنامج لاختيار الأصوات الغنائية الشابة، شخصيات عندما تتفحص تاريخها وتكوينها المعرفي لا تجد لها سجلًا ولا إنجازًا ولا موقعًا ولا هوية، ولكنها موجودة في المجتمع تطوف حيث يعمل المؤلف وتجلس في طرقاتهم وقد تعمل حواجز ومطبات كي لا يستمر المؤلف في مساره واهتماماته، وكأنها خلقت من مادة أخرى، لا ترى لها وجوها معلمة بتفاصيل دالة على شعوب، ولا هي رائية تمتلك عينين قادرتين على الدخول إلى نمط من دون استئذان، ولا هي شخصيات لها دور اجتماعي أو فكري مؤثر بحيث تلفت النظر إليها عندما تفكر في الكتابة؟، شخصيات موجودة وبكثرة، خاصة في فترات غياب القانون وهيمنة المحسوبيات، وشيوع اللا قواعد. 
تكون الشخصية «بلا ملامح» مهيمنة، هذا ما ركز عليه موزيل في تحليله لنوع الشخصيات التي يمكنها أن تكون أنموذجًا. وعندما تتكرر تتحول إلى نمط، يمكننا أن نراها في التجمعات والتظاهرات والمعامل والمساكن والمجتمعات، والأزقة والمقاهي، وقد تفاعل مع محيطها وقضاياه وقد أبدى موقفًا، وقال ما يشبه الرأي الخاص به، يكون الشخص «بلا ملامح» إيجابيًا أحيانًا، أي يكرر النمط، عندما يكون معمما اجتماعيًا، و يكون ظاهرة ثقافية هي حصيلة الأمية المتغلغلة في بنيته، ومع الأسف، وبالرغم من كثرتها، لم نجد لها حضورا في أدبنا القصصي والشعري، ربما، لم يتغلغل المؤلف العراقي في تفاصيل هذه الشخصية الشائعة، لأن الشخصية نفسها غير مستقرة على طبيعة ثابتة، تراها وقد اغتنت قليلا فغيرت من ملابسها وكلامها، ولبست أحذية وصففت شعرها وتمنطقت بنطاق بالسياسة، عندئذ لا تثير اهتمام المؤلف العراقي الذي غالبًا ما يرى ظواهر الأمور من دون أعماقها، ولا يتتبع تاريخ الشخصية بل يتعامل معها في لحظات متقطعة من تاريخ وجودها، فالشخصيات الهامشية، والتي بلا ملامح سرعان ما تعود لطبيعتها المتسكعة، لأنها وحدها التي تعرف شعاب المدن وطرقاتها واحوالها، فتغيب مرة ثانية عن ذاكرة المؤلف حينما لا تجد إلا نفسها وقد أصبحت في غفلة جزءًا من الشخصيات البرجوازية، خاصة عندما لا تمتلك غير أن تردد ما هو مقبول سياسيًا.