كتب ملعونة

ثقافة 2021/11/16
...

  د. لاهاي عبد الحسين
 
نتعرف من خلال كتاب «كتب ملعونة، لمؤلفه علي حسين الصادر عن دار «أثر» السعودية، 2021 على ثلاثية «الجنس والدين والسياسة»، وعبر جهود نخبة ممتازة من صانعي المعرفة، وفي مختلف مجالات الفلسفة والشعر والرواية والأدب والعلوم، والذين أسهموا في إحداث الخرق وشق الجدار. فقد كان لما أسماه بيير بورديو «الهابتوز»، إنْ تمكن النظام من اخضاع الأفراد وتطويعهم واجبارهم على مسايرته. بيد أنّ هؤلاء الكتاب خرجوا بما أنتجوه على «الابتكار الاجتماعي» المجمع عليه بحسب إيميل دوركهايم وسجلوا لابتكاراتهم مواقف في مقاومة السائد والمقبول والمكرر حد اللعنة. 
وكان القاسم المشترك بين كل هؤلاء الكتاب أنهم قاوموا الكنيسة ونددوا بسطوتها مستشهدين بالعقل وقدرته على
الإبداع. إنه دعوة للتأمل في رسائل الثقافة العالمية وعدم الاكتفاء بالاستمتاع بها وتذوق جمالياتها. تحمل كل هؤلاء الكتاب المذكورين في هذا الكتاب صنوف الويلات بسبب أعمالهم الموقظة، ولكنهم في النهاية سجلوا حضورهم في الذاكرة المعرفية للعالم. مهد بعضهم لثورة في عالم الفكر طواها الإهمال كما في «نسبية» الفيلسوف اليوناني بروتاغوراس نحو 700 سنة قبل الميلاد وأعيد اكتشافها من جديد مطلع القرن العشرين من قبل ألبرت آينشتاين صاحب النظرية النسبية في الفيزياء. وظهر في ما بعد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي قدمها في مجال علم الاجتماع الثقافي. 
أضف إلى ذلك دور بروتاغوراس للمساهمة بتأسيس علم الاجتماع الحديث من خلال الفكرة التي يمكن أنْ يطلق عليها «الأوجه المتعددة للحقيقة». اليوم، عبرت هذه الأخيرة عن نفسها بصيغة ظهور مدارس اجتماعية متعددة تهتم بتسليط الضوء على جانب من الحقيقة من دون غيره كأنْ ترى الجانب المتماسك والمتساند. أو أنْ ترى الجانب الصراعي والنزاعاتي في ما بين الجماعات. يضاف إليها أعمال التبادليين والرمزيين التفاعليين والظاهراتيين والطرائقيين وأحدثهم النسويين. 
 
تجارب وقراءات
بقدر تعلق الأمر بالعرب فقد تناول الكاتب تجارب ثلاثة منهم، ابن رشد وطه حسين ونجيب محفوظ. تعرض الأول إلى المحاكمة والنفي وحرق كتبه بسبب ضغط رجال الدين على أحد خلفاء الموحدين في الأندلس ابو يوسف يعقوب الملقب بالمنصور وامتناعهم عن دعمه شعبياً في الحرب ضد الافرنج بدعوى الإلحاد وإفساد عقول المؤمنين. فكان أنْ استجاب الخليفة للضغط وأمر بنفي الشارح والفيلسوف ابن رشد. 
وطال التهجم عميد الأدب العربي طه حسين بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي»، الذي شكك فيه بمصداقية الشعر المنسوب لعصر ما قبل الإسلام، كونه لا يمكن أنْ يكون مرآة للحياة الثقافية آنذاك. تلك هي أطروحة قد تدعم وقد تفند، ولكن المتعصبين من أدعياء الدراسة والعلم ومنهم أحد علماء الأزهر بلغ به حد المطالبة بإعدامه، واصفاً العميد
بـ «الشقي الملحد». 
ولكن الحسن بالموضوع تقديم الدكتور أحمد لطفي السيد استقالته من رئاسة الجامعة احتجاجاً على مطالبة من هذا النوع. وتعرض نجيب محفوظ بسبب روايته «أولاد حارتنا»، إلى محاولة اغتيال وهو في عمر متقدم تلبية لفتوى بالتكفير أصدرها أحدهم. 
لم يقف الأمر عند هذا الحد بالنسبة لشعراء وكتاب عرب آخرين منهم الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي الذي بدا وكأنه تورط بالكتابة التبشيرية عن كتاب «أصل الأنواع»، مما أعتبر تشكيكاً بالرواية الدينية الشائعة في هذا المجال. لم يكن الطريق سالكاً أمام كتاب جارلس دارون، «أصل الأنواع» منذ صدوره عام 1859، واستمرت الضجة مشتعلة حتى اليوم. تمسك الناقمون بفكرة «القرد»، على افتراض أنها إهانة للإنسان في ما الحقيقة أنها قوضت أساطيرهم وشجعت على التفكير العلمي. كان لـ «أصل الأنواع»، رسالة مفادها أنّ الحياة الإنسانية متغيرة ومتطورة وهذا ما قضّ مضجع طلاب الفكر الثابت والأزلي والدائم. وهذا موسوليني يصف كتاب «كفاحي» لهتلر بأنّه بسيط وحتى مضجر ولكنه لم يخمن قوته التدميرية عندما تلقته الجماهير الألمانية بالقبول والاتباع. 
لم ينج قبل ذلك من عرفوا بفلاسفة النهضة والتنوير الأوروبي من أمثال جون لوك وديكارت وشبينوزا ومونتسكيو وفولتير وجان جاك روسو من المطاردة وحرق الكتب والنفي. في ما تعرض آخرون ومنهم عبد الرحمن الكواكبي إلى التسمم للتخلص منه بسبب كتابيه «أم القرى»، «طبائع الاستبداد»، إذ نظر إليهما على أنهما ذم وقدح بسلطة الوالي العثماني وتحريض للعامة من أجل المطالبة بالعدالة والانصاف. 
 
مقاربة المختلف
لم يهمل الكتاب قصة كتاب سيمون دي بوفوار الأشهر، «الجنس الآخر»، الذي وصف بأنّه «السنّة»، التي لا تستغني عنها امرأة. وكما عبرت زميلتها الفيلسوفة بادنتر عند نعيها: «يا نساء العالم أنتنّ مدينات بكل شيء لسيمون». يذكر أنّ الكتاب تلقى عند صدوره حملة شرسة تمثلت بقيام الفاتيكان بوضعه على قائمة الكتب المحرمة وتهجم كتّاب معروفون على الكتاب بمن فيهم بعض أصدقائها الشخصيين ومنهم ألبير كامو الذي رأى أنّه يقدم الرجل الفرنسي على أنه سيء. 
وكانت فيرجينيا وولف سبقت الفيلسوفة الفرنسية من خلال دخولها في جدالات ساخنة حول حرية المرأة. ظهر على الصعيد العربي قاسم أمين في كتابه «تحرير المرأة»، داعياً إلى الاهتمام بتعليمها واحترام حريتها. لم يكتفِ الرافضون الغاضبون بالتعبير عما جاء في الكتاب بل بلغ بأحدهم أنْ اعترض طريق أمين ليطلب منه الخروج مع زوجته للتنزه معها في تعبير صارخ عن السخرية والتحقير له على ما جاء في
 كتابه. 
اليوم، صار كتاب أمين مصدراً لا يتجاهله أحد وبخاصة حين الخوض ببدايات عصر النهضة العربية والإسلامية. يلاحظ الكاتب بعين الحسرة والألم أنه أعيد الاعتبار لكل هذه الكتب الملعونة وغيرها مما ضمها الكتاب بعد عقود من صدورها ورحيل معظم كتابها بما فيها كتاب «كفاحي» الذي تولى معهد التاريخ المعاصر في ميونخ إعادة نشره ليس تعبيراً عن الإعجاب والاعتراف بمضمونه وإنما لغايات معرفية تحصن الجيل وتطلعه كي لا يبقى أسير تصورات لا أساس لها.