تجليَّات الواقعيَّة الخياليَّة في مسرحيَّة المفتاح

ثقافة 2021/11/16
...

 د . سعد عزيز عبد الصاحب 
 
تبدّت في تجارب مسرح ما بعد عام 2003 أشكال ورؤى ومضامين جديدة اتخذت من (ثيمات) الصفح والتسامح والعدالة بؤرة ومحورا رئيسا في اشتغالها الفكري والجمالي، وذلك في شواغل الكاتب الصربي (ارييل دورفمان) في مسرحيتي (الموت والعذراء) و (حروب) والكاتب العراقي (مثال غازي) في مسرحية (المفتاح) التي تعيد انتاج الثيمة نفسها التي اضطلع بإخراجها في النص الصربي كل من المخرجين (ابراهيم حنون) و(هيثم عبد الرزاق) في مسرحية (ظلال) و (اسامة السلطان) في النص العراقي، وهنا، ومن نافل القول علينا ان نبارك هذا المنحى في الصياغة الدرامية المحلية المجددة في مسرحية (المفتاح) لانها لم تكن ظلا او تابعا متعالقا مع نصوص عالمية او عربية اتخذت من الثيمة نفسها النهج والسياق نفسيها، فالمفتاح نص بكر بامتياز يشير برمزية واستعارة بالغة الدقة والجمال لواقعنا السياسي والاجتماعي
المعيش.
 
المتن الحكائي
يسرد متن النص الحكائي قصة سجين سياسي يخرج من السجن بعد فترة طويلة قضاها محتفظا بمفتاح بيته المصادر عسى أن يفرج عنه يوما ما، متجها لبيته، فاتحا أبوابه، منتقما من ظالميه، وبالفعل لم يغير نزلاء البيت المصادر اقفال المنزل، فيدخل لبيته مساء حاملا (جيلكان) من البنزين ليحرق المنزل ومن فيه، إلا أنه يتفاجأ بامرأة نائمة على كرسي هزاز متلفعة بشرشف حريري تنتظر زوجها، وبيته كما تركه لم يتغير فيه شيء، تفزع المرأة من زائر الليل الداخل بلا استئذان، يعود السجين بالذاكرة من خلال المكان فيتذكر زوجته باهرة التي انتحرت بعد ان اغتصبها ضباط الأمن في العهد المباد، ظل ظلها يحوم حول بيته المصادر، لينشأ الصراع الدرامي ويتطور بين السجين الذي يريد الانتقام وصاحبة المنزل في أحقية ملكية البيت. 
فذهبت المرأة الى وسيلة (شهرزادية) في إرجاء وتأجيل فعل الانتقام لديه من خلال السرد وتقنية الصورة المرآوية للذاكرة في ضوء تجسيدها لصورة زوجة السجين (باهرة) بمبدأ يزاوج بين الاقناع العقلي والهمس العاطفي لكي تبقي على حياتها، ليجد السجين في المرأة الجديدة شكلا وذاكرة تربطه بزوجته فيتطامن لها بلحظات ويعود لهياجه وجنونه المنتقم في لحظات اخرى، أخيرا تنجح المرأة /باهرة في ان تذهب بالسجين الى مرافئ الاطمئنان والسلام والصفح والغفران ليعود أدراجه ومفتاحه القديم ليفتح به أبوابا وآفاقا جديدة لحياة آمنة.
 
الميتا مسرح والرؤية الإخراجيَّة
حاول المخرج (أسامة السلطان) في قراءته الإخراجية للنص ان يعمل على آلية القص واللصق والمونتاج في نص العرض الجديد، وخفف من لغة الاستطراد والسرد لدى شخصيتي السجين والمرأة، وكانت الاضافة الحقيقية التي حققها في رؤيته هي في انتاج رمزية تجسيدية للآخر زوج المرأة الغائب في ضوء أسلوب ميتا مسرحي قاده لاضفاء وفرة من التوتر والشحن الدرامي والعاطفي داخل بنية العرض فـ (الاخر) الافتراضي يستدعى ويحضر من خلال كاميرات المراقبة التي وضعها الزوج /الغائب لمراقبته زوجته حين يغيب في عمله، وكان لتأثير التلفون ورناته المفاجئة أثر بليغ في إنشاء وإبراز عنصري الصراع والتشويق البصري بين السجين
والمرأة. 
كذلك اطار الصورة الفارغة التي لا تحمل محتوى بعينه تشي بمعنى ودلالة رمزية شوهت هذا الغائب واكدت حضوره الميتا مسرحي فكل نفي هو اثبات له، كما جاء تأثيث الفضاء سينوغرافيا باتباع منهج واسلوب (الواقعية الخيالية) التي تمزج بين الواقعي والفنتازي في ضوء دلالة اللون الابيض التي تلفعت به كل موجودات البيت.. كبيت للسلام والامان، اضافة لوظيفة القطع الاكسسوارية والازياء التي ادت دورا ودلالة استدعائية كامنة في لاوعي السجين لتحويل اشياء الذاكرة الى واقع تجسيدي معيش كـ (رداء باهرة) (اطباق المطبخ) (صندوق الذكريات) (قضبان السجن) اذ اسهمت اللعبة الاخراجية الذكية بتحويل النص من نص (ناستولوجي) يحتفي بالماض الى نص وقائعي يومي معاصر يقرأ ويستشرف ويتنبأ بالمستقبل وهذه منتهى اهداف الفن الابداعية المرتبطة بما هو اجتماعي وثقافي
عضوي.
 لم تكن نهاية العرض مقنعة للمتلقي وذلك بعودة السجين بعد خروجه من البيت وتحرك المرأة من مكانها باتجاهه على اصوات مؤثر طرق باب وجرس هاتف ليلتقيا مرة اخرى لانها اربكت وشوشت السياق الذهني التراكمي للمتلقي الذي بناه العرض، ولم تضف دلالة تأويلية أخرى
اليه.
الأداء التمثيلي
المسرحية هي من نوع الديو دراما او الثنائيات الدرامية، فالممثلان سيكونان شاخصين امام المتلقي من بداية العرض الى نهايته، هنا تكمن صعوبة المهمة المناطة بهم. اذ لا شخصيات مساعدة أخرى يستعيض بها المخرج في تغيير النسق البصري واللفظي للعرض ولا تقانات مسرحية أخرى تأخذ بيده، وعلى الرغم من ذلك قدمت الممثلة (اسراء العاني) اداء مقنعا ولافتا لشخصية المرأة ذكرتنا بفواعل ممثلاتنا المجيدات كسهير اياد واقبال نعيم وانعام البطاط واثمار خضر وغيرهن بقوة حضورها ومرونة جسدها وسرعة بديهيتها وهي على الخشبة. 
فضلا عن وضوح صوتها وألفاظها التي تخلصت من (العي) الذي يلازم اغلب ممثلاتنا وخوفهن المزمن من اللغة العربية الفصحى والاداء التمثيلي
بها. 
وكذلك الممثل (هاشم الدفاعي) بعد انقطاع طويل عن خشبة المسرح يعود بشخصية (السجين) صوتا قويا وحضورا بليغا خاليا من (المونوتون) في تجسيده لحالات السجين وتحولاته المركبة.