هل يصبح العراق جسراً يجمع جانبي الخليج؟

آراء 2021/12/11
...

  كاثرين هارفي وبروس رايدل
  ترجمة: أنيس الصفار  
كان الذوبان في جليد العلاقات السعودية العراقية يأخذ منحى تدريجياً منذ العام 2015، إلا أن الاشهر الأخيرة بدأت تشهد سلسلة من التطورات. ففي شهر تشرين الثاني الماضي افتتح منفذ عرعر الحدودي الرئيسي بين البلدين لأول مرة بعد اغلاق دام 30 عاماً، وفي شهر آذار الماضي وقع البلدان عدة اتفاقيات خلال رحلة قام بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الى الرياض لبحث العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الجانبين. الأهم من هذا كان تعهد المملكة برفع استثماراتها في العراق الى 3 مليارات دولار من مستواها الحالي البالغ نحو 500 مليون دولار. بعد 10 أيام من رحلة الكاظمي المذكورة ظهرت تقارير تنبئ بأن حكومة الكاظمي قد استضافت محادثات مباشرة بين السعوديين والايرانيين، وادعت تلك التقارير أن المحادثات تركزت على موضوع اليمن تحديداً.
 
يدعي البعض أن السعوديين قطعوا علاقاتهم بإيران عقب التظاهرات التي اسفرت عن تضرر منشآتهم الدبلوماسية في إيران، ولكن الحقيقة هي إن الملك سلمان استغل ذلك الحدث كعذر لقطع 
العلاقات. 
فقبل يومين من قطع السعوديين علاقاتهم بإيران، ولعل الأمر كان مجرد مصادفة، أعادوا افتتاح سفارتهم في بغداد رسمياً لأول مرة منذ 26 عاماً، وهو أمر كان التخطيط له جارياً منذ العام الذي 
سبق. 
الملك سلمان وابنه ولي العهد محمد بن سلمان هما أشد الزعماء عداء لإيران في تاريخ المملكة، لذلك يعد قرارهما بفتح باب الحوار معها خطوة كبيرة لها 
معناها.
علق مسؤول عراقي على الأمر بقوله إن الكاظمي كان شديد الحرص على جعل العراق ينهض بدور الجسر بين الجارين المتنافرين. 
هذه المحادثات التي استضافها العراق تبشر بديناميكية جديدة في العلاقات بين اللاعبين الثلاثة الأبرز في منطقة الخليج وهم إيران والعراق والمملكة السعودية، ديناميكية استغرق تشكلها عقوداً من 
الزمن.
 
مراجعة مختصرة لسياسة نقل الثقل
منذ العام 2003 كان المعلقون الخارجيون غالباً ما ينظرون الى منطقة الخليج على اعتبارها نظاماً ثنائي الاقطاب تشكله الخصومة المستمرة القائمة بين إيران والسعودية. 
لكن الشرق الأوسط الحديث كان دائماً متعدد الاقطاب، ومن المنظور التاريخي يمكن فهم منطقة الخليج بشكل افضل على اعتبارها ثلاثية 
الاقطاب. 
فبدءاً من سبعينيات القرن الماضي، عندما انسحبت بريطانيا من المنطقة، بدأ التنافس بين إيران والعراق والسعودية لفرض الهيمنة. 
كانت إيران آنذاك تحت حكم الشاه، كما كانت أكبر وأقوى اللاعبين الثلاثة بلا منازع، لذلك حاولت فرض سيطرتها على المنطقة 
برمتها. 
اما العراق البعثي، ثاني اكبر الثلاثة، فقد كان يسعى لفرض هيمنته على الجانب العربي من الخليج والتسيد على الانظمة الملكية هناك بما فيها المملكة السعودية. هكذا بقيت السعودية أضعف الثلاثة لأنها الأصغر ولأن جيشها لا يكاد يستحق 
الاشارة.
في مباحثاتها مع الطرفين الاخرين بشأن أمن الخليج كان هدف السعودية هو وضع العراقيل والحواجز بوجه مشاريع الهيمنة لدى جاريها، وفي الوقت نفسه فرض سيطرتها على الإمارات الخليجية الاخرى الأصغر منها. 
جرياً على هذا السياق كان بالامكان وصف السعودية بأنها {القابض على عصا الموازنة} في 
الخليج. 
في نظام توازن القوى تعرّف النظرية الواقعية الطرف {القابض على عصا الموازنة}، أو ما يسمى {الدولة الموازنة}، بأنها الدولة التي لا تبقى ثابتة على انحيازها لدولة معينة، او لتحالف من الدول، بشكل دائم لأن هدفها هو تحقيق حالة التعادل بين المحاور المتنافسة من خلال مواصلة التأرجح والتنقل حسب ما تمليه الضرورة. 
في حالة السعودية خلال السبعينيات كان من مستلزمات لعب دور {الدولة الموازنة} بناء علاقات مع كل من إيران والعراق أقوى وامتن من علاقات كل منهما بالآخر. 
لا شك ان السعوديين كانوا مرتابين بطموحات الشاه الامبراطورية، بيد ان بلده مثل بلدهم كان موالياً للولايات المتحدة. 
كذلك لم يكن السعوديون يطمئنون الى صدام حسين، ولكنه على الأقل كان عربياً وأقرب اليهم 
مذهبياً. 
على هذا المنوال، كلما كان أحد الاثنين، الشاه أو صدام، يحاول التمادي في فرض سياسته الاقليمية على نحو مقلق للسعوديين نقل هؤلاء ثقلهم الى جانب الطرف الآخر لإفشال محاولته. 
أحداث الثورة الإيرانية والحرب التي أعقبتها بين العراق وإيران أربكت هذه التوازنات السعودية 
الحساسة. 
في تلك الحرب اختار السعوديون، الذين ارتؤوا أن الخطر الأعظم متمثل بإيران الثورية، الانضمام الى النظام البعثي في العراق، ورغم ان محللين كثيرين يعتقدون ان تلك اللحظة بالتحديد كانت هي بداية العداء السعودي الإيراني فإن هدف السعوديين حينها كان يتركز في الحقيقة على استعادة حالة التوازن بين أكبر لاعبين في منطقة الخليج. لا شك أن العراق هو من ابتدأ تلك الحرب المروعة، لكن إيران بقيت رغم هذا الطرف الرافض لانهائها حتى العام
 1988.
استمر السعوديون على تحالفهم مع العراق ما دامت إيران مستمرة بالحرب، لكنهم مع هذا لم يتوقفوا عن مد يدهم لها. 
ففي العام 1985 مثلاً توجه سعود الفيصل، الذي كان حينها وزيراً لخارجية المملكة السعودية، الى طهران حين كانت الحرب في 
ذروتها. 
بيد أن  العلاقات   السعودية   الإيرانية  انحدرت الى ادنى نقطة   لها في اعقاب موسم  الحج للعام 1987 عندما أسرفت   قوات   الأمن  السعودية  في ردها على تظاهرات قام بها  الإيرانيون  وتسببت  بمقتل 402 حاج معظمهم  من
 الإيرانيين. 
بيد أن السعوديين عادوا الى الإيرانيين بمبادرة مهمة للدلالة على حسن نيتهم في موسم الحج التالي، الذي توافق مع نهاية الحرب، حيث عبر الملك فهد عن أسفه لغياب الحجاج الإيرانيين جراء ما وقع من تأزم في السنة السابقة. كان هدف السعوديين هو اعادة العلاقات الفاعلة مع إيران لكي يعود التوازن في الخليج الى ما كان عليه بمجرد انتهاء 
الحرب.
في العام 1990 احتل صدام الكويت فأصاب الرياض بالصدمة وعطل قدرة السعوديين على التأرجح بين إيران والعراق. 
بادر السعوديون بسرعة الى قطع علاقاتهم بالعراق وعلقوا الآمال على من سيعقب صدام، لم يكونوا متحمسين للغزو الذي قامت به ادارة {جورج دبليو بوش} وإطاحتها بصدام، لذلك شرعوا خلال اعوام التسعينات وبداية ما بعد 2000 بدعم خطط لاحداث انقلاب في بغداد يمهد لصعود زعيم عراقي جديد، وهو ضابط كبير من العرب السنة، كي يستطيعوا التعامل معه.
نعلم الان طبعاً ان الغزو الأميركي لم يأت بحاكم جديد من الطائفة السنية، بل بنظام برلماني يهيمن عليه الشيعة، ولم يستطع الملك السعودي عبد الله، الذي جلس على العرش للفترة 2005 - 2015، أن يرى في العراق الجديد الذي يقوده الشيعة شريكا يمكن عن طريقه تحقيق التوازن مع 
إيران. 
بل ان الملك في الواقع اعتبر هذا العراق حليفاً لإيران ومنصة لها تطلق منها طموحاتها في 
الهيمنة. 
كانت تلك ردة فعل مضخمة من قبل عبد الله، لكن القيادة السعودية الحالية اكثر استعداداً لتقبل عراق يقوده الشيعة، ولو انهم سيبقون بلا شك يفضلون قيادة سنية.
بيد ان الملك عبد الله كان مصيباً في شيء واحد، فعندما كان صدام على رأس السلطة كان السعوديون هم اللاعبون الخليجيون الذين يتمتعون بأحسن العلاقات مع كل من اللاعبين الاخرين، لكن ما أن اصبح للشيعة نصيب في السلطة في بغداد حتى فقد السعوديون هذه الميزة. 
العراق بطبقته السياسية، التي يغلب فيها الشيعة والعرب، مؤهل لإقامة علاقات مع إيران والسعودية افضل واقوى مما يمكن لأي منهما إقامته مع 
الاخر. 
فيما مضى كانت السعودية تملك ميزة تمكنها من التأرجح بين جاريها الاكثر منها قوة، لكن هذا الامتياز انتقل الان الى يد 
العراق. 
في الواقع ان العراق، الذي أوهنته عقود من الحروب، هو اليوم اضعف اللاعبين الثلاثة في الخليج، لذلك بات يحتل موقع {الدولة الموازنة} الذي كانت تحتله السعودية في الماضي.
 
هل هو دور جديد للعراق؟
لقد اصبح هدف العراق في السنوات الأخيرة هو تبني سياسة خارجية بعيدة عن الانحياز تتسم بالعلاقات المتوازنة مع إيران والسعودية معاً، وللتأكيد على هذا التوازن حرص رؤساء الوزراء العراقيون على أن تتضمن جداول زياراتهم في أغلب الاحيان طهران والرياض. في العام 2017 قال حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي آنذاك، ان العراقيين يرفضون أن يصبحوا جزءاً من سياسة المحاور، على حد تعبيره، وأضاف ان العراق نفسه كان {ضحية} النزاعات 
الاقليمية. 
المكسب الذي سيخرج به العراق من موقفه غير المنحاز هذا هو انه مع مرور الوقت {وإذا ما استطاع الثبات على عدم انحيازه} سوف ينجح في ادارة اللعبة بين جاريه الأقوى في المنطقة لصالحه مثلما كانت السعودية تفعل منذ أجيال. اكثر من هذا يمكن ان يصبح العراق جسراً بين إيران والسعودية، وهذا هو ما يعتزم رئيس الوزراء الكاظمي فعله كما 
يبدو. 
بل ان العراق في واقع الحال هو المكان الطبيعي المناسب لإيران والسعودية معاً كي تسويا خلافاتهما، والعراق لديه الرغبة في مد جسر فوق الهوة الفاصلة بين الاثنين، ومن مصلحته القيام بهذا، كما يقول مسؤول عراقي معلقاً على استضافة العراق للمحادثات. اضاف المسؤول: {كلما اشتدت المواجهة في المنطقة كانت لها انعكاسات عندنا}. 
فالمصالحة السعودية الإيرانية تعني مزيداً من الهدوء للمنطقة ومزيداً من الهدوء 
للعراق.
على المدى القريب ليس واضحاً بعد إن كان العراق سينجح في ذلك، كذلك ليس من المؤكد إن كانت لدى السعودية وإيران رغبة حقيقية في 
المصالحة. 
لقد كانت المحادثات مركّزة حتى الان على موضوع اليمن، وفقاً للتقارير، لأن السعوديين قد علقوا هناك في مستنقع بات يكلفهم اموالاً 
طائلة. 
إيران من جانبها تدعم الحوثيين، ولكنها لا تتكلف إنفاقاً كبيراً عليهم، لذا يحتاج السعوديون اليوم الى تدخل إيران كي تقنع الحوثيين بانهاء حرب بدأت كفتها تميل لصالحهم. 
في هذه الحرب غدت المدن السعودية تحت طائلة التهديد المستمر من هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة، وإذا ما نجحت المحادثات التي يتوسط فيها العراقيون في التوصل الى وقف لاطلاق النار سيكون ذلك تخفيفاً للتوترات الاقليمية يساعد في تخفيف وطأة اسوأ كارثة انسانية عرفها 
العالم.
من المحتمل ان العراق الان يمر بمرحلة ضعف لا تمكنه من تسليط ذلك القدر من التأثير على جاريه الذي يساعد على انطلاق عملية مصالحة، بيد ان المحادثات السعودية الإيرانية التي تدعي التقارير انها جرت في العراق في وقت سابق من الشهر الحالي ربما تكون ايذاناً بديناميكية سوف تتجلى مستقبلاً بكامل حجمها. 
مختصر القول ان منطقة الخليج ليست ساحة ثنائية الاقطاب بل ثلاثية، والعراق الذي بقي خارج المشهد لسنوات عديدة سيعود لاعباً رئيسياً، وبمجرد عودته سوف يتمكن من المساعدة في تخفيف التوترات بين الطرفين الاخرين.
عن معهد {بروكنغز}